Share
  • Link copied

الزوايا الصوفية في المغرب بين روحانية الأمس وسلطوية اليوم

في تاريخ المغرب، كانت الزوايا الصوفية منارات للعلم والورع، وملاجئ للنفوس الحائرة، وحصونًا للمقاومة الوطنية في فترات الاستعمار والاضطراب، وحملت على أكتافها لواء التربية الروحية، وسعت إلى تهذيب النفس وتصفية القلب من أدران الدنيا، وفق مناهج السلوك إلى الله، كما قررتها تجارب الأولياء والعارفين، غير أن ما تشهده بعض هذه الزوايا اليوم من تحولات وانزلاقات يطرح أسئلة ملحة حول المسافة المتزايدة بين الطريقة والطريق، وبين الدعوة إلى الله والاستقواء بمفاصل النفوذ.

فقد تحول بعض شيوخ الزوايا من موجهين ومربين إلى شخصيات تحيط بهم هالات من العصمة، لا تقبل نقدًا ولا مساءلة. وإذا كان الأصل في التربية الصوفية هو التواضع والانكسار أمام الله، فإن بعض من يتصدرون المشهد يمارسون تسلطًا على المريدين، ويستثمرون رصيدهم الروحي في بناء شبكات نفوذ سياسي واجتماعي، بدل الاستغراق في التربية والمجاهدة.

وبدلًا من أن تكون الزاوية فضاءً مفتوحًا للنصح وتبادل الرؤى والتجرد، أضحت لدى البعض مؤسسة مغلقة، تتحصن بالخطاب الديني، وتتعامل مع أي صوت معارض أو ناقد كما لو أنه تهديد وجودي. فيصير من يُفترض أن يُرشد ويُزكي الناس، هو ذاته من يتوسل سيف القضاء لإسكات المخالفين.

فكثيرون ممّن انتقدوا ممارسات بعض الزوايا لم يقصدوا النيل من التصوف كنهج في التربية والعبادة، بل أرادوا من باب النصيحة لفت الانتباه إلى ما يقع من تجاوزات مالية أو أخلاقية أو رمزية، لكن الرد على هذه الأصوات لم يكون غالبًا بالحوار أو المراجعة، بل عبر بوابة المحاكم، حيث تُحرك شكايات ضد المنتقدين، وتُسند إلى محامين كبار، وتُستغل علاقات نافذة، لطالما انتقدها الصوفيون الأوائل في خلواتهم.

ولعل أخطر ما في هذا المسار، أن المريد نفسه الذي كان يُربى على الطاعة والمحاسبة الداخلية، يجد نفسه اليوم في موقع المغلوب على أمره، يعيش حالة من الانفصام بين تعاليم الطريق وسلوك من يتقدمونه، فيبدأ التململ الصامت، ويضمر الاستياء دون أن يقوى على المجاهرة به، خشية التهم أو النبذ أو اللعن الرمزي.

فالتصوف، كما قرره كبار أعلامه من الجنيد إلى الشاذلي إلى أحمد زروق، هو تخلية وتحلية، وهو الجلوس مع الله بلا علاقة، وهو الانفصال عن الجاه والتنافس، ومن هذا المنظور، فإن الزاوية لا تستمد قدسيتها من الحصانة، بل من الشفافية والسلوك السوي، وكلما انحرفت عن هذه المبادئ، سقطت في فخ العُجب والسلطة، وصارت عبئًا على الدين لا نصيرًا له.

فلا يجوز أن تتحول الزوايا إلى مؤسسات مغلقة، ترفع شعارات الإرشاد الروحي، بينما تمارس التضييق على حرية التعبير، وتُجنّد أجهزة الضغط بدل أدوات التربية، فحتى الإمام الغزالي وهو من أعمدة التصوف، لم يتردد في نقد الزيف داخل مؤسسات العلم، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

واللافت أن الكثير من مريدي هذه الزوايا، خصوصًا من الجيل الجديد، لم يعودوا يتقبلون هذا الواقع بالصمت ذاته، فقد بدأت أصوات تتعالى همسًا أو كتابة ترفض التقديس، وتطالب بالفصل بين الروحانية والمصلحة، وتدعو إلى تخليق الحياة الروحية، وإعادة الزاوية إلى أصلها، باعتبارها طريق للمجاهدة، لا وسيلة للزعامة.

فإذا لم تستجب الزوايا لهذا النداء، وإذا واصلت التعامل مع النقد كعداء، فإنها تخاطر بفقدان جوهرها، وتفرغ التصوف من مضمونه التربوي، وتدفع بمريديها إلى البحث عن بدائل خارج جدرانها.

وليس المقصود هنا التعميم ولا النيل من رموز التصوف، بل دعوة صادقة لإعادة البوصلة إلى موقعها الصحيح، فالتصوف المغربي إرث حضاري وروحي، لكنه ليس معصومًا من الانحراف، خصوصًا حين تتداخل فيه المصالح، ويُختزل في الطقوس والمظاهر، وتُغلق أبواب النقد.

فليكن هذا المقال دعوة للتأمل، لا للخصومة، وصرخة محبة قبل أن يتحول المريد إلى تابع بلا روح، والشيخ إلى زعيم بلا وعي. كما قال ابن عطاء الله السكندري بأن من لم يقف عند حدّ الأدب، أُبعد عن حضرة القُرب.

Share
  • Link copied
المقال التالي