في ظل الاهتمام المتزايد لدى المغاربة بالحضارة الصينية، هذا البلد العريق الذي يُعد من أقدم الحضارات في العالم، والذي يشهد اليوم صعودًا متناميًا على الساحة الدولية في مختلف المجالات، نُظمت ندوة وطنية بمدينة بنسليمان بعنوان: “الصين بعيون مغربية: قراءات في نصوص رحلية معاصرة إلى الصين”، وذلك يوم السبت 3 ماي 2025 بالمركب الثقافي بالمدينة.
تميزت هذه الندوة بتقديم قراءات في نصوص رحلية مغربية تناولت الصين ذاكرة ومجالا وإنسانا، مبرزة دور أدب الرحلة في الكشف عن ملامح الذات وهي في تماس مع الآخر، مما يجعل من هذه النصوص مرآة للذاكرة وتوثيقًا للمجال في أبعاده المتداخلة. وقد اختار المنظمون أن يتزامن هذا الحدث مع ذكرى ميلاد الرحالة الشهير ابن بطوطة، في استحضار رمزي لمساره كمكتشف مبكر للعوالم البعيدة.

في هذا الإطار، قدم المشاركون قراءات في ثمانية نصوص رحلية مغربية معاصرة عن الصين. من أبرزها رحلة أبي بكر القادري، أحد رواد الحركة الوطنية، الذي زار الصين سنة 1960 ضمن وفد مغربي بدعوة من الرئيس الصيني آنذاك، احتفالًا بالذكرى الحادية عشرة للثورة الصينية. وقد دوّن القادري مشاهداته بلغة سلسة وأسلوب قوي -على حد تعبير الباحث حميد زواق- على شكل رسائل موجهة إلى أبنائه، نُشرت لاحقًا تحت عنوان “رسائل أبوية من والد إلى أولاده” (2004). أبدى القادري في رحلته إعجابًا بالتجربة الصينية، مركزًا على مظاهر التطور الصناعي والاقتصادي، في تعبير ضمني عن انشغاله بسؤال النهضة الذي كان يؤرق الوطنيين بعد الاستقلال.

من جانبها، تناولت الباحثة نسرين الجعفرية شعرية المكان في الرحلات إلى الصين، من خلال قراءة في نص “اطلبوا الرحلة ولو في الصين” لعبد الرحمن مودن، معتبرة المكان تجربة وجودية وجمالية تتجاوز الجغرافيا لتصبح كيانًا حيًا تتفاعل معه الذات الراحلة. وتجلّت هذه الشعرية في طقوس الشاي، وسوق الأعشاب، ورمزية الألوان مثل الأحمر (رمز الخلود) والأصفر (رمز الإمبراطورية الصينية التي لا تغيب). وامتدت هذه الرؤية الشعرية إلى نص الشاعر أحمد الطريبق: “من عدوة طنجة العاليا إلى بحر الصين: كشفًا عن محجوب واقتناصًا لمرغوب”. فقد انبهر بالطبيعة الصينية المتداخلة مع البنية الحضرية، ورأى في ذلك تجليًا لوعي بيئي متجذر في الثقافة الصينية، كما أوضحت الباحثة آسية واردة، مؤكدة أن هذا الانبهار لم يكن سطحيًا، بل مرتبطًا بخيارات الصين في الزراعة المستدامة وترشيد الموارد.
وقد انعكس هذا الحس الجمالي أيضًا في ملاحظات الطريبق الدقيقة للعمران والمآثر، حيث لاحظ ميل الصينيين للعمارة التقليدية التي تجسد التوازن بين الإنسان والطبيعة وتعكس بعدها الروحي. ومع ذلك، عبّر عن إعجابه بالطفرة العمرانية الحديثة التي تعرفها العاصمة بكين. وهكذا، لم تكن الرحلة نحو الصين مجرد تجربة سياحية، بل رحلة وجودية وثقافية عميقة. ووفقًا للباحث عادل يعقوب، مسيّر الجلسة العلمية الأولى، فإن هذه النصوص تقدم رواية تاريخية عن صعود الصين من زاوية الرؤية المغربية.

وفي السياق ذاته، ناقش الباحث رضوان ضاوي في ورقته “الرحلة المرادية: تأملات في تمثلات مغربي في بكين” نص حميد أحمد المرادي “الرحلة المرادية إلى بكين – الصين الشعبية” (2017)، حيث تُظهر الرحلة تمثلات اقتصادية وسياسية وثقافية تسعى إلى زحزحة الصور النمطية الغربية عن هذا البلد.
وفي الجلسة الثانية أو بالأحرى الرحلة الثانية، قدم الباحث إبراهيم أزوغ قراءة في نص عبد الحميد الجماهري “ذهبنا إلى الصين وعدنا من المستقبل”، مبرزًا تداخل البعدين السياسي والإعلامي في النص بحكم المهام التي يتقلدها المؤلف. فقد نظر الجماهري إلى المغرب من خلال الصين، مستشرفًا آفاق التغيير فيه، فمزج بين الوصف والتأمل والمقارنة الساخرة، مستحضرًا أسئلة النهضويين العرب من قبيل: “لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟”. غير أنه لم يسعَ إلى التبرير، بل إلى كشف مكامن التأخر وفضحها، وكأن الصين في هذا السياق مرآة تُظهر الحاجة المغربية إلى إعادة التفكير في البدائل الممكنة وإعادة الاعتبار لدور الخيال في اجتراح الحلول.
أما الباحث المبارك الغروسي، فقد تناول سيرة أول طالب مغربي بالصين، الطبيب محمد خليل، من خلال نصه “هكذا عرفت الصين”، حيث قدم انطباعات عن رحلته الطويلة نسبيا، مركّزًا على سلوكيات الاحتراس والتوجس من الآخر لدى الصيني، إضافة إلى التوازن الأخلاقي لدى الصينيين رغم الصورة النمطية عنهم بسبب إيديولوجيتهم المادية الماوية. وقد أكد محمد أعزيز، مسيّر الجلسة الثانية، على أهمية هذا النص في تقديم رؤية مغايرة للصين بحكم طول التجربة وعمق المعايشة.
وفي ورقته، قدم الباحث محمد النظام -الحائز مؤخرا على جائزة ابن بطوطة في أدب الرحلة- قراءة لتمثلات المؤرخ الطيب بياض، التي سجلها سنة 2018 خلال زيارة في إطار ما سماها الباحث ب”الدبلوماسية الناعمة”، حيث نقل في نصه الموسوم ب: “اكتشاف الصين: رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين”، مشاهد وانطباعات عن الصين عكست حضورًا قويًا في الذاكرة المغربية لهذا البلد من خلال أبعادها السياسية والثقافية.
أما الورقة الختامية، فكانت للباحث العربي الخضراوي، الذي تناول نص “الدر الثمين في أخبار الصين” للعربي بنجلون، معتبرا أنه نص لا يكتفي بعرض مشاهدات عن بلد بعيد جغرافيًا وثقافيًا، بل ينسج عبر لغته رؤية أدبية تجمع بين الذاتي والموضوعي، والوصف والتأمل، والسرد والحوار، مما يجعله نموذجًا أدبيًا متفردًا.
في ختام الندوة، أثار المشاركون أسئلة مهمة، من أبرزها: هل يمكن لهذه الرحلات أن تقدم صورة موضوعية عن الصين رغم شساعة مساحتها وكثافة سكانها، والمدة الوجيزة التي قضاها الرحّالون المغاربة هناك؟ وهل تمثل هذه النصوص اكتشافًا فعليًا للحضارة الصينية، أم أنها تظل في حدود التمثلات والانطباعات الشخصية؟، كما تناولت بعض الأسئلة حدود الذاتي والموضوعي في هاته النصوص الرحلية، خصوصا مدى حضور سؤال النقد لبعض السياسات الصينية في تعاملها مع الأقليات الدينية، ونموذجها السياسي الذي يوصف -غربيا على الأقل- بالانغلاق، وبالتالي إلى أي حد تناولت هاته المتون الواقع الصيني بالنقد، أم أن هذا السؤال كان غائبا عنها.
*زكرياء عريف، أستاذ وباحث، نائب رئيس جمعية بنسليمان لحفظ الذاكرة المجال
تعليقات الزوار ( 0 )