عرفنا أن الذين خَلفوا الخطابي كقائد وطني في الحركة التحررية وصفوا أنفسهم بأنهم الوطنيون الحقيقيون الذين حققوا استقلال المغرب سلميا. فهل يعني ذلك، في عقيدتهم، أن المقاومين بالسلاح، أو من وصفناهم بالحركة الوطنية التحريرية، ليست غايتهم السلام؟
يعلم الجميع أنه في خمسينيات القرن العشرين، حين انبعثت مجددا منهجية الحركة الوطنية التحريرية في طول وعرض الشمال الإفريقي، من أجل دحر الاستعمار عن أقطار المغرب الكبير، سيرا على نهج الخطابي في عشرينيات القرن العشرين، عاد قادة الحركات الوطنيات السياسية إلى الوقوف مجددا ضد قيام جيش التحرير المغربي في جبال المغرب وبواديه. فقد أكد السيد الغالي العراقي، أحد قيادات جيش التحرير بشمال المغرب في مذكراته: أن قيادات الحركة الوطنية السياسية لم يكونوا موافقين على قيام جيش تحرير مغربي أصلا. (كتاب “ذاكرة نضال وجهاد”، ص 178 و 179. واتضح رأي تلك القيادات، بدون مواربة، في محادثات أيكس ليبان سنة 1955، (Aix-les-Bains). فقد كان رأي عبد الرحيم بوعبيد، المشارك في تلك المحادثات، ممثلا عن حزب الاستقلال، مناهضا بقوة للمقاومة المسلحة. ولم يبخل بتوجيه النصيحة إلى الوفد الفرنسي في المحادثات، التي كان يرأسها رئيس الحكومة الفرنسية، يومذاك، السيد إدغار فورEdgar Faure) تـ 1988)، بأن الخطر الذي يتهدد الوجود الفرنسي في المغرب يوجد في البادية وليس في المدن؛ حاثّا إياهم أن يتعاونوا مع “الوطنيين المؤيدين لفرنسا (…) فهم وحدهم من يستطيع إيقاف تلك الدسائس”. (إدغار فور، مذكرات، القسم الخاص بمحادثات أيكس ليبان، ترجمة الغفراني، ص 73 و74). وراح إعلام حزب الاستقلال يومها، المتمثل في جريدة “العلم” يصف جيش التحرير في جبال المغرب بـ”الإرهابيين”، مثله كمثل الإعلام الفرنسي الرسمي وشبه الرسمي.
وجاء رأي المؤرخ محمد زنيبر (تـ 1993)، الذي أبداه في ندوة باريس 1973، لينص ضمنيا على أن رأي الوطنيين السياسيين في المقاومة المسلحة لم يكن بعيدا عن رأي الفرنسيين، الزّاعم أن عبد الكريم الخطابي كان في مقاومته مجرد زعيم قبلي، يعكس “آخر اختلاجات النظام القبلي القديم”. (محمد زنيبر،ضمن “عبد الكريم الخطابي وجمهورية الريف، ص 393). غير أن رأيه فيما يخص تبني جماعات العمل الوطني السياسي، أو الحركات الوطنية السياسية، اختيار النضال الوطني الشرعي والسلمي، ضمن مظلة الاستعمار، فإنه كان متماهيا، إلى حد بعيد، مع رأي الزعيم علال الفاسي، الذي كان يرى الأولوية للنضال الوطني في إطار الشرعية، بل كان غير بعيد، أيضا، عن رأي الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، الذي أشرنا إليه أعلاه. وأضاف المؤرخ زنيبر إلى ما تقدم مسألة صراع الأجيال السياسية، الذي عبر عنه بقوله: “عبد الكريم قيمة تاريخية وأسطورة يجب استغلالها، لكن لن يضعوا (أي زعماء الأحزاب) أنفسهم تحت إمرة رجل عجوز … فتلك مسألة لم تكن مطروحة” (زنيبر، المرجع السابق، ص 405).
أما عبد الله العروي، فعلى الرغم من تحميل المسؤولية للخطابي؛ لأنه لم يهيئ المدن للتفاعل والتجاوب مع حركته في المستقبل، فقد تمنى في خاتمة مداخلته الباريسية، تجاوز آثار تغييب تجربة الخطابي على المغاربة في مرحلة بناء دولتهم الوطنية المستقلة، قائلا: “إن عبد الكريم وعلال الفاسي، وجهان عرفا العظمة وعرفا الفشل كذلك: الأول في ساحة المعركة، والثاني لاحقا وبشكل قد يكون أكثر مأساوية على طاولة المفاوضات، ولم ينهض المغرب من هذا الفشل المزدوج، أما نحن، نحن الذين علينا أن نعيد بناء هذا المغرب المهدوم، المستبعد؛ إذ طالما سمعنا رسالة علال الفاسي، وآن لنا أن نحل رموز الكلام المتقطع لعبد الكريم الريفي”.
ونتساءل الآن، على الرغم من صفة “الريفي” للخطابي التي يتشبث بها: ماذا تحقق بعد 50 سنة من إطلاق هذا النداء، الداعي إلى إعادة قراءة أسباب إخفاقات المغرب المستقل، والدعوة إلى تجاوزها من خلال التوافق بين رأي “الحكيمين” الوطنيين: عبد الكريم الخطابي المحارب وعلال الفاسي السياسي، أم أن الأمر يتجاوزهما ويتجاوز طموحات المغاربة في الوقت نفسه؟
سبق أن تساءل العروي: لماذا لجأت جماعات العمل الوطني إلى الاقتباس من التجارب المشرقية، كتجربة سعد زغلول (تـ1927) مثلا، وأهملت تجربة مغربية؟ علما أن مرجعية المشرق لدى الحركة الوطنية السياسية، ظهرت بوضوح في عريضة المطالبة بالاستقلال، المقدمة من قبل حرب الاستقلال إلى الإقامة الفرنسة، في 11 يناير 1944، التي اعتبرت النظام السياسي في المشرق مرجعيتها السياسية.
. ويسجل عبد الله العروي أن الأهمية الوحيدة التي أولتها الحركات الوطنيات السياسية المغاربية في مجموعها للخطابي، ،لم تكن إلا في منفاه الثاني بمصر، بعد لجوئه إليها سنة 1947. وفي الواقع يستثنى الزعيم محمد بن حسن الوزاني (تـ 1878)، زعيم حزب الشورى والاستقلال، الذي أشاد في مذكراته، المسجلة في زمن الاستقلال ببعض العناصر التي تضمنها المشروع المجتمعي للخطابي؛ منها:
- تعيين حكومة كل أعضائها منتخبون من مجموع قبائل الريف واغْمارة، المكونة من 41 قبيلة،
- انتخاب برلمان لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وفقا للأصول المتعارف عليها،
- المراعاة الكاملة لمبادئ عصبة الأمم،
- مناشدة جميع الأمم لتحقيق السلام والرفاهية للشعوب، بغض النظر عن الاختلافات الدينية والعرقية،
- التزام حكومة الريف بإرساء السلام مع إسبانيا، وفتح المجال للتعاون والتبادل التجاري مع جميع الأمم،
- حكومة الريف لا تعادي الحضارة الحديثة، ولا تقبل الإصلاح الإسباني الذي يعني تدمير البلاد باستخدام أسلحة محظور استعمالها. (بن الحسن الوزاني، حياة جهاد، ص 72 و 73).
أما الزعيم علال الفاسي، زعيم حزب الاستقلال، إذا استثنينا آراءه العاطفية المعبر عنها في كتابه “الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، لحظة خلاص الخطابي من الأسر / النفي الفرنسي سنة 1947، فإننا لا نعثر لديه على أي رأي يشبه أو يماثل ما تطرق إليه غريمه الحزبي محمد بن الحسن الوزاني. ونعلم أن كلام الزعيم الفاسي اقتصر، بصفة خاصة، على بعض جوانب المقاومة المسلحة، دون المجالات الاجتماعية والتحديثات السياسية. ولم يتناول الزعيم الفاسي كذلك قضايا ذات علاقة بما كان يحدث ويتغير على أرض الواقع في زمن المقاومة، بل أشيع عن عبد الكريم بأنه لم يفتح ولو مدرسة واحدة. وهذا إجحاف قد يصل درجة السفاهة، بل تزوير مقصود لحقائق تاريخ الحركة الوطنية التحريرية.
*مفكر ودبلوماسي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )