وأهم ما لفت نظرنا في مشروع الخطابي التعليمي والتربوي، هو حثه على الانتقال من المعرفة المتناقلة شفويا، التي لا تستطيع أن تُكوّن تراكما معرفيا وعلميا، والتي لا يمكن لها بالتالي أن تصبح مرجعا علميا نافعا للأجيال المتلاحقة، أو جسرا لانتقال المعرفة النافعة بين الأجيال، أو الاستفادة من التقنيات والعلوم؛ لأن انتقال المعرفة لا يتم إلا عن طريق التسجيل والتدوين، لكي يتمكن كل متتبع وباحث أن يستأنس بما تركه السابقون. وبهذا ندرك المغزى من اتخاذه قوله تعالى “{اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم} (الآية 5 من سورة العلق) شعارا لبرنامجه في التعليم. وندرك في الوقت نفسه بُعد وصيته لتلاميذ المدارس، “أوصيكم يا أبنائي بالقراءة والكتابة، وعليكم أن تعوّدوا أنفسكم على ممارسة الكتابة وتدوين خواطركم اليومية دون إبطاء أو إجهاد في البحث عن الجمل المنمقة، بل عبروا عن أحاسيسكم باللغة الريفية الأمازيغية، أو العربية، أو بخليط بينهما. فالمهم هو التعبير الصادق الأمين عن المشاعر. والأهم هو اكتساب ناصية الكتابة، والتعوّد على ممارستها”. (محمد الرايس، شهادات عن المقاومة…، ص 6). ونعتقد بأنه كان مدركا أن أهم إخفاقاتنا في مسايرة تطورات عصرنا، نجمت عن عدم قدرتنا على الاطلاع على إنتاج المطابع في الجوار وفي العالم، وعدم القدرة على التمييز بين الغث والسمين فيما يصل مداركنا بسبب الاعتماد على المعارف المتناقلة شفويا المتميزة بعدم الدقة والضبط من جهة، ومن معلومات قديمة تجاوزها الزمن العلمي، وشوّهها الجمود والاختصار وعلوم الحواشي.
وخلص إلى الاعتقاد بأن التعليم سيساعد، بل سيعبد الطريق الأسلم الموصل إلى تنمية فاعلة، ورأيناه يعبر عن أولى رؤاه التطبيقية حول الموضوع بكتاباته في تلغراما الريف. إذ راح يخصص جزءا منها لنشر توجيهات تجريبية للفلاحين تتعلق بالكيفيات الأنجح لزراعة أشجار التين والزيتون واللوز وغيرها، (والفلاحة أساس اقتصاد المنطقة)، وتقدم لهم الطرائق العملية للسقي الأنفع الذي ينتج عنه وفرة الإنتاج، وحسن حمايتها من الأمراض.
التفاعل بين المقاومة والإنتاج
أما أثناء حرب التحرير، فقد أوجد الخطابي منهجية جديدة هدفها عدم الإخلال بين الإنتاج والحضور في جبهات الحرب في الوقت نفسه. وتمثلت منهجيته في تناوب أبناء القبائل والقرى والبلدات على العمل في الحقول والحرب على الجبهات؛ بمعنى أنه حينما يكون جزء من أبناء القبيلة أو الجهة أو القرية في الجبهة لمقاومة الاستعمار، يكون الجزء الآخر في ميادين العمل المنتج. ولم تتوقف خططه الاقتصادية عند الفلاحة فقط، بل شملت التفكير في الاقتصاد الصناعي كذلك؛ فالعصر كان عصر أمل في إحداث اقتصاد صناعي، سيرا على نهج أمم كثيرة تمكنت أن توظف معادنها وكل ما في باطن أرضها من الخيرات الطبيعية لتحقيق الازدهار لأوطانها، وتحقيق العيش الكريم لمواطنيها؛ ولذلك كان يرى أن الحل الصناعي هو الطريق الأقصر الذي سيخرج المغرب من خندق التخلف الاقتصادي، ويحقق له الشغل المنتج للثروة، ويحقق الرفاه الاجتماعي والتوازن بين الروح والمادة، أو بين الدين والدنيا. وأقوى عبارته عن ذلك قوله الذي كان معروفا بين رفاقه في المقاومة وبين جيله: “إنني مؤمن بالإسلام وأقوم بشعائر ديني، ولكني أريد أن أرى مداخن المصانع في بلادي أكثر من مآذن المساجد”.
الموقف من التبعية الفكرية
أما ما يتعلق بالتبعية الفكرية، وخاصة في موضوع التراث الفكري والتديني، المعروف بالفكر السلفي، فنعتقد بأن الخطابي لم يكن راضيا على أن تبقى الساحة المغربية تابعة لغيرها، أو عبارة عن مِلْكية تدينية تابعة للآخرين، طبقا لوصف ابن عاشر (ت،1630) الذي سجل في زمانه أن ماهية الثقافة المغربية كانت تنعكس:
“في عقد الأشعري وفقه مالك ،،، وفي طريقة الجنيْد السالك”،
قبل أن تضاف إليها النزعة السلفية، وخاصة النِّحلة الوهابية في العصر الحديث. الأمر الذي يمكن أن يوحي لكل متتبع لمسار المغرب الفكري وعلاقته بتراثه الإسلامي أن هدا البلد أضحى مِلكية شاغرة، يستطيع غيره أن يجرب في ساحته توجهاته التديّنية والأيديولوجية ويطبق فيه آراءه بكل سهولة؛ وذلك بسبب عدم وجود مرجعية ذاتية تعكس فاعليات الغرب الإسلامي التاريخية، ليستأنس بها المغاربة وهم يستعيدون علاقتهم بمصادر معتقداتهم، وبأحد أهم مكون من مكونات هويتهم الاجتماعية والفكرية والثقافية، وبعناصر من سِجِلِّ حضورهم في الحضارة. ونعتقد بأن الخطابي كان يرى، حسب اعتقادنا، أن الأمم الخالية من مرجعيات ثقافية وفكرية تستأنس بها، قصد الحفاظ على مكونات ومقومات وجودها وحضورها بين الأمم، ومساعدتها على إعداد الخطط الملائمة لبناء مستقبلها، وتحقيق وطموحاتها إلى التقدم والارتقاء نحو الأفضل، ستضطر إلى أن تبقى باستمرار مجرورة من قبل غيرها، خاضعة لما يملى عليها، فاقدة بالتالي لمقوّم استقلال الشخصية الاجتماعية والثقافية والفكرية.
لذلك نرى الرجل قد أعاد صوغ مرجعية سلفية مغربية ليستأنس بها المغاربة عند اللزوم؛ ونراه يقترح هذه المرجعية علنية من خلال تقديم كتاب صديقه علي الحمّامي، المعنون “إدريس، رواية شمال إفريقية”. والكاتب علي الحمّامي كان معه في حرب التحرير خلال العشرينيات من القرن العشرين، والتحق به في القاهرة، بعد أن لجأ إلى مصر بمساعدة شخصيات عربية وزعماء حركات وطنية مغاربية سنة 1947. والحمّامي أول كاتب لمذكراته كذلك. جاء في تقديم الخطابي ما يلي: “البلاد المغربية التي لعبت دورها الكبير في تكوين الحضارة العربية، والتي نفتخر دائما بأنها قد قدمت للإنسانية رجالا كابن خلدون، وابن بطوطة، وابن تومرت، وابن رشد، سوف لا تدخر وسعا في إعادة مكانتها المفقودة بعد استرجاع حريتها واستقلالها المسلوبين، كما هو شأن كافة أمم العالم …”. ويستفاد من هذه العبارات الواضحة ميله إلى تفضيل سلفية مغربية، تجمع بين تكامل فروع المعرفة، وتتميز بأصالة الغرب الإسلامي، واقتناعه بمرجعياته، في مجال التراث والفكر السلفي بخاصة؛ إلا أن ذلك لم يقلل من اعتزاز انتمائه إلى العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي.
كان الخطابي، إذن، يرمي إلى جعل المرجعية السلفية المغربية مرجعية أصيلة، يجمعها بالمشرق ومع العالم الإسلامي التفاعل الإيجابي، وليس التبعية الناكرة لوجود أصالة شمال إفريقية، أساسها منهجية تكامل المعرفة، وليس تنافرها أو التعارض العدمي بين مكوناتها. ونعتقد بأن أهم مرجعية مغربية يكون قد اعتمد عليها في ذلك، هو التفاعل الإيجابي بين النقل والعقل، أثناء فورة الثورة الفكرية في زمن الموحدين.
هذه بعض المجالات التي شغلت موضوع التجديد في فكر الخطابي في حينه، والتي لا تزال تلهم جيل الاستقلال، لكي يرتاد أنجع السبل والمناهج الفاعلة، لكي يسترجع مكانته، ويثبتها من أجل تسجيل وجوده وحضوره الإيجابي في الحضارة الإنسانية.
من أهداف مشروع مجتمع للخطابي
قمنا، فيما تقدم، بالإشارة إلى بعض رؤى محمد بن عبد الكريم فيما يخص الصحافة ودورها في تنوير المجتمع بقضايا الوطن وأحداث العالم ومتغيراته، وضرورة ربط الجسور بين مسارات الوطن من أجل دعم إيجابياتها، وتجنب عثراتنا، واستخلاص العبر من تاريخنا؛ كما رضنا كيف ابتكر منهجية جديدة لتدبير مرحلة الحرب التحريرية، من خلال ربط مقاومة الاستعمار بالعملية الاقتصادية والإنتاج، قصد تجنب فقدان التوازن في المجتمع. وعرفنا أن التعليم كان يمثل لديه أساسا للتقدم والتنمية الاجتماعية على عكس ما ادعاه قادة من جماعات العمل السياسي لاحقا، وفقا لما جاء في مداخلة عبد الله العروي في ندوة باريس سنة 1973. فهل كانت لدى الرجل رؤى أخرى تتكامل مع الرؤى السابقة، لكي تشكل سويا ما يمكن تسميته “أهداف مشروع مجتمع”، أساسه مغرب متجدد، وغايته مستقبل أفضل لكل المغاربة؟
نعتقد بأن الخطابي كان مستوعبا للواقع المغربي المعيش، وواعيا بتعقيداته التاريخية والسياسية، ولكنه كان عاقدا العزم على تجاوزه. ولذلك نرى إرادة التحرير لديه ولدى رفاقه تنطلق من المرتكزات التالية:
- إلغاء سلوكيات الضغائن، المعروفة في أدبيات الريف قبل حرب المقاومة والتحرير بـ”الريفوبليك”، وتجاوز أخلاق الانتقام الشخصي والقبلي، التي كادت أن تصبح شريعة دائمة بين ساكنة الريف،
- التزام الجميع بأحكام الشريعة والقانون دون سواهما، والالتزام بأحكام القضاء الصادرة عن المحاكم بعد محاكمة عادلة،
- الاعتماد في اتخاذ القرارات على التشاور، أو الطرائق الديمقراطية المعروفة آنذاك في الدول المتحضرة، التي ابتعد عنها المغرب منذ قرون.
وأتذكر شخصيا أن كثيرا من المقاومين المجاهدين، الذين جمعتني بهم ظروف متعددة، كنت أسألهم: ماذا استفدتم، أو ماذا تعلمتم من الأمير مولاي موحند؟ فكان القاسم المشترك في أجوبتهم ما مضمونه ” تعلمنا منه الديمقراطية”. - القيام بشق الطرقات ونشر وسائل الاتصال والتواصل بين مختلف المناطق، على الرغم من ظروف الحرب. ومن هنا، نرى أن الخطابي كان مجددا وحاملا لمشروع ثقافي واجتماعي وسياسي يسهم به في تجديد المغرب وتحديثه، بالإضافة إلى الذود عن حياض الوطن.
نعم، قد تكتشف الأجيال الوطنية، الباحثة والمقدّرة لكل من جدد المغرب، المزيد من مكونات المشروع المجتمعي للخطابي، الذي كان يرمي من خلاله إلى انبعاث المغرب واستعادة دوره في التاريخ الفاعل، وستكشف أيضا، بلا شك، الجوانب الخفية من اتحاد الإخوة الأعداء، إسبانيا وفرنسا، ضد الريف حول الاستعمال الفظيع للأسلحة الكيماوية المحرمة في القانون الدولي وفي أخلاق البشر؛ فقد اتحدا في العدوان لتدمير الريف وساكنته، والقضاء على كل عناصر حياتهم. من الأنعام والماء والمزروعات. غير أن التحالف الفرنسي الإسباني ومساندة الدول الغربية لهما، بما فيها أمريكا، ولد تعاطفا وتقديرا لخطط المقاومة وأهدافها في العالم، عكس ما كانت تروج له تقارير دوائر الاستعمار والمتعاونين معها، أو الخاضعين لها بالولاء والتبعية، حين زعموا أن الريفيين هم الذين جنوا على أنفسهم حين اعتقدوا بأنهم قادرون على إلحاق الهزيمة بفرنسا وإسبانيا معا. ولذلك تم تبرير لجوء الاستعمار إلى استعمال السلاح الكيماوي، بأنه كان أمرا ضروريا، لإبطال غرور الخطابي ورفاقه.
فماذا كانت مواقف من يطلق عليهم صفة “جماعات العمل الوطني”، التي عُرفت لاحقا بـ”الحركات الوطنية السياسية”، من عبد الكريم الخطابي وخططه؟ وبصفة خاصة مرحلة نفيه إلى جزيرة لارينيون بالمحيط الهندي، ما بين خريف 1926 وربيع
*مفكر ودبلوماسي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )