لقد كان لسياسة التقويم الهيكلي التي انتهجت من طرف الدولة ، و القائمة على إعادة توازنات الميزانية نتائج وخيمةعلى التركيبة الاجتماعية بالمغرب . فقد مس الفقر عدة شرائح كانت في فترة السبعينات من القرن 20 من الفئات المتوسطة و التي كانت تنعم بمستوى معيشي لائق . كما أن تقليص الدولة لوثيرة التشغيل ساهم أيضا في تكسير أحلام فئات المتعلمين و الجامعيين التي انضافت إلى الشرائح الفقيرة . بالاضافة إلى أن تخلي الدولة عن قطاع السكن ، وتركه لمضاربات القطاع الخاص، زاد من تأزم وضعية هذه الفئات نفسيا وجسديا وماديا. أما الجفاف، وفي غياب سياسة فلاحية ناجعة ، فقد سرع من عملية النزوح إلى المدن بما واكب ذلك من اكتظاظ وفقر وانحراف.و قد ولدت هذه الوضعية الاقتصادية احتقانا اجتماعيا تفجر من خلال مجموعة من الانتفاضات التي اتخذت أبعادا مطلبية و جهوية .ولاحتواء هذا الوضع، فقد لجأت الدولة إلى مقاربة أمنية استندت بالأساس على العنف والضبط الإداري في حين استغلت المعارضة الأصولية هذه الوضعية لتقوم بمجموعة من الإجراءات ذات طابع تكافلي سواء من خلال تقديم العون الغذائي للمحتاجين ،والمساهمة في بعض الأعمال الخيرية، الشيء الذي أكسبت هذه المعارضة شعبية داخل الأوساط الفقيرة خاصة داخل أوساط الطلبة وفئات المتعلمين والمتعلمات.و لعل وعي الملك الحسن الثاني بهذا المعطى ، هو الذي دفعه للتفكير في دراسة إمكانية تطبيق الزكاة، وسن ضريبة التضامن . بالاضافة إلى تعيين حكومة اليوسفي التي أكدت على أولوية المسألة الاجتماعية. لكن يبدو أن مختلف هذه الإجراءات قد بقيت ذات تأثير محدود نظرا لطابعها الرسمي. وبالتالي ، عمل الملك محمد السادس ، منذ توليه العرش على انتهاج سياسة أخرى تقوم على ركائز أربعة : التضامن ، وعدم الرسمية ، والتغطية الإعلامية، و المأسسة. وقد أثمرت هذه السياسة عن إنشاء << مؤسسة محمد الخامس للتضامن >> حيث أن انتقاء هذه التسمية التي تحيل رمزيا إلى جد الملك محمد السادس ، و تعيين إحدى مستشارات الملك للإشراف عليها يعكس الرغبة الملكية العميقة في اقتحام المجال الإحساني و محاولة التحكم فيه ، حيث تم العمل على تنظيم عمليات تضامنية سنوية تهم بالأساس تنظيم عمليات إفطار للفئات المحتاجة والمهمشة ، و توزيع مساعدات غذائية عليهم.
الاشراف الملكي على توزيع حريرة رمضان
أشرف الملك محمد السادس في بداية حكمه على عمليات الإفطار الجماعي للفئات المعوزة والمهمشة من خلال الحضور الشخصي لتوزيع حريرة رمضان ، حيث كان يتم نقل ذلك عبر وسائل الإعلام الرسمية مكرسا بذلك إحدى تقاليد المخزن في الإطعام والبر بالرعية التي كان يحييها سلاطين الأسرة العلوية .و في هذا السياق أشار ابن زيدان في كتابه (العز والصولة) إلى ما يلي : ( أما في الأعياد ، فكان الأعيان الوافدون على أبواب السلطان للتهنئة وتقديم شعار المتبوعية ، وإظهارا لامتنان ، ينزلون مع من انضاف إليهم على رحاب القصر ضيوفا مكرمين . فتخرج لهم جميع اللوازم مدة سبعة أو ثلاثة أيام من مطابخ القصر وينفذ لدوابهم ما يكفيهم من العلف ، ثم يودعون ، وينعم عليهم بالملابس ويوصلون بالنقود كل وما يناسب منصبه . وفي باقي الأيام كانت توزع أمام الباب العالي أقداح الحريرة صباحا والكسكس في المساء ..ويزاد لكل طفل من أبناء الجيش ، الذين لم يلتحقوا بعد بصفوف الجندية لصغر سنهم ، خبزتان مياومة ، ويزاد في أربعين يوما من الليالي ، البيصارة ويصب عليها شيء من الزيت والكمون ويفرق عليهم . وبقي الأمر معمولا به إلى آخر مولاي عبد العزيز ) .وبالتالي ، فقد كان توزيع حريرة رمضان تقليدا مخزنيا تم إحياؤه من طرف الملك محمد السادس لتقوية شعبيته السياسية التي ارتكزت في بداية حكمه على تسويق صورته << كملك الفقراء >> . وقد كان هذا بالطبع يبطن خلفية تستهدف ملئ الحقل الاجتماعي وإبعاده عن كل توظيف سياسي سواء من طرف المعارضة الأصولية أو من بعض فعاليات المجتمع المدني وبعض << نخب الفقر>> التي بدأت في التبلور. فخلال شهر رمضان ، عادة ما تتنافس الجمعيات ، وبعض المحسنين وكذا بعض الممونين لتنظيم موائد إفطار على غرار موائد الرحمان التي تقام في بعض الدول العربية كمصر التي “انتشرت فيها موائد الرحمن خلال 15 سنة الأخيرة، وصارت متنفساً للفقراء يتناولون فيها طعامهم، وصارت ساحة تنافس محببة بين الأغنياء لتقديم ما لذ وطاب فى موائدهم، وهو تماماً ما قصده وأراده أحمد بن طولون عندما أقام أول مائدة رحمن في مصر في السنة الرابعة لولايته، حيث جمع القواد والتجار والأعيان على مائدة حافلة في أول أيام رمضان وخطب فيهم إنني لم أجمعكم حول هذه الأسمطة إلا لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا أعلم أنكم لستم في حاجة إلى ما أعده لكم من طعام وشراب، لكنني وجدتكم قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم فى رمضان، ولذلك فإننى آمركم أن تفتحوا بيوتكم وتمدوا موائدكم وتهيئوها بأحسن ما ترغبونه لأنفسكم فيتذوقها الفقير المحروم»، وأخبرهم ابن طولون بأن هذه المائدة ستستمر طوال أيام الشهر الكريم. ومع مرور الزمن اختفى طقس البر، حتى عاد الخليفة الفاطمى المعز لدين الله، وأقام مائدة في شهر رمضان يفطر عليها أهل جامع عمرو بن العاص وكان يخرج من قصره 1100 قدر من جميع ألوان الطعام لتوزع على الفقراء، وسميت «دار الفطرة»، ووصل طول بعضها إلى 175 متراً… “.
-إشراف الحرس الملكي على توزيع حريرة رمضان
بالموازاة مع إشراف مصالح وزارتي الداخلية والأوقاف والشؤون الإسلامية ، بتعاون مع مصالح إدارة التعاون الوطني ،على عملية توزيع قفة رمضان على المستوى الوطني، أسندت مهمة الاشراف على توزيع حريرة رمضان كل سنة إلى مصالح الحرس الملكي. وهكذا تضمن بلاغ الحرس الملكي لسنة 2025 ما يلي “تنفيذا للتعليمات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، تقوم وحدة الحرس الملكي خلال شهر رمضان الكريم لسنة 1446 هجرية، و على غرار السنوات الفارطة، بتحضير و توزيع وجبات الإفطار التي يتكفل بها جلالة الملك، لفائدة الأسر المعوزة بعدة مدن من المملكة”.
وبالتالي ، فمنطوق هذا البلاغ ومضمونه يعكس الرغبة الملكية في أن تبقى هذه المبادرة الاحسانية ملتصقة بالقصر الملكي وما جرى عليه الامر منذ عدة قرون من خلال توزيع دار المخزن “لأقداح الحريرة صباحا والكسكس في المساء ويزاد في أربعين يوما من الليالي ، البيصارة ويصب عليها شيء من الزيت والكمون ” . فعلى الرغم من عدم استمرار الملك محمد السادس في الاشراف شخصيا على هذا التقليد الخيري المخزني ، على غرار ما يتم به الامر بالنسبة للاشراف الملكي على انطلاق عملية توزيع قفة رمضان ،فإن إسناد هذه المهمة لمصالح الحرس الملكي وبتعليمات من الملك تجسد الحفاظ على التقليد الذي كان محط ملاحظات من طرف بعض الأوساط التي انتقدت هذه العملية .حيث سبق أن كتب الصحفي علي مرابط في رسالة مفتوحة إلى الملك غمز فيها بما يلي :
” جلالة الملك،
دأبتم كل سنة، منذ اعتلائكم العرش، على توزيع الحريرة والقُفف الرمضانية على المواطنين. وتُقدِّمون هذا العمل باسم التضامن والإحسان بينما هو، في نظري، تبذيرٌ للمال العام واحتقارٌ للشعب وإهانة لذكائه.
فأولاً، كيف يمكن لقُفّة قيمة محتواها 192 درهماً (أي أقل من نصف درهم يومياً لكل مستفيد على طول السنة) أن تساهم في تقوية قدرات الفقراء الاقتصادية؟ إن الشيء الوحيد الذي تقوِّيه هو صورتكم ….
ثانياً، توزعون هذه “المساعدات” في طقوس مخزنية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تعود إلى ما قبل القرون الوسطى: فِرق فلكلورية وطُبول وساعات من الإنتظار تحت الشمس الحارقة وكاميرات تُشهِّر عنوة بأوجه الفقراء. فهل تتصورون مثلاً رئيس دولة ديمقراطية يجمع مواطنيه في ساحة عمومية وتحت أنظار الكاميرات ليوزع عليهم تعويضات البطالة مثلاً؟ الجواب لا، فقد خصصوا لذلك صناديق تُودِع الأموال مباشرة في الأرصدة البنكية للعاطلين الذين تتوفر فيهم المعايير…..”
لكن إلى جانب تفادي هذا النوع من الملاحظات ، والتي سبق أن غمز بها حتى رئيس الجزائر عبد العزيز بوتفليقة خلال مراسيم توزيع شقق على بعض الفئات الاجتماعية الجزائرية “بأنه يوزع السكن ولا يوزع الحريرة ” ، فإن إسناد ” توزيع وجبات الإفطار التي يتكفل بها جلالة الملك، لفائدة الأسر المعوزة بعدة مدن من المملكة ” تبقى مرتبطة بتعليماته وتنفيذا لارادته بهذا الشأن في إطار تجسيد الحس الإنساني الذي ميز هذا الملك منذ أن كان وليا للعهد واهتمامه المتواصل بالفئات الهشة داخل المجتمع ، التي عادة ما تنقل وسائل الاعلام في تغطيتها التلفزية شكر المستفيدين والمستفيدات من هذه المبادرة للملك ودعاءهم له بالصحة وطول العمر.
بالإضافة إلى ذلك ، فإسناد هذه المهمة قد يرجع بالأساس إلى الحرص على ضمان حسن تنظيم هذه العملية وتوفير الشروط الملائمة لتنفيذها في أحسن الظروف . ولعل هذا ما تجلى من خلال اختيار نقط توزيع بمدن بعينها حيث أشار بلاغ الحرس الملكي إلى أن “وحدة الحرس الملكي تقوم بتحضير وتوزيع حوالي 225 ألف وجبات الإفطار لفائدة الأشخاص المعوزين بعدد من المدن من خلال 13 نقطة توزيع تشمل ستة مراكز بمدينة الرباط، وثلاثة مراكز بمدينة سلا، كما أضاف أن هذه العملية ستشمل 4 مراكز بطنجة وتطوان ومراكش والنخيلات قرب الرماني.” . فلضمان حسن سير ونجاح هذه المبادرة الملكيةالإنسانية، “يسهر أطر الحرس الملكي، بالتنسيق مع ممثلي السلطات المحلية بمختلف نقط التوزيع، على النظام و الحرص على حصول المستفيدين على وجباتهم في أحسن الظروف.” وبالتالي ، فقد شملت عملية توزيع وجبات حريرة رمضان لهذه السنة والتي حددت في مائة وخمسين ألف وجبة مناطق محددة لمدن مغربية معينة : بدءًا من الرباط حيث شملت دار السلام وتواركة والسويسي ومستشفى مولاي عبد الله للأنكولوجيا ومستشفى الأطفال ابن سينا. في حين شملت في مدينة سلا، قرية أولاد موسى وحي السلام والمعمورة، بينما اقتصر التوزيع في مدينة طنجة على حي الشرف.أما في إقليم تطوان، فتم تحديد منطقة حافة الركينة كمركز للتوزيع، ومنطقة المشور في مدينة مراكش على مستوى المشور، و مركز النخيلات التابع لجماعة الرماني في إقليم الخميسات.
وهكذا ، يمكن القول أن عملية توزيع حريرة رمضان تندرج في إطار المبادرات الإنسانية التي يشرف عليها الملك محمد السادس، ليس بوصفه رئيسا للدولة وراعيا للأمة بل أيضا بوصفه القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، من خلال مواصلة الحرس الملكي، خلال كل رمضان ، تنفيذا لتعليماته ، توزيع وجبات الإفطار لفائدة الأسر المعوزة في عدة مدن مغربية.
تعليقات الزوار ( 0 )