ليس كل جهلٍ أمّية، وليس كل أمِّيٍّ جاهلًا. فقد يقرأ الإنسان ويكتب، ويتعامل مع المعارف الظاهرة، لكنه في جوهره غارق في الجهل، لا لافتقاره إلى المعلومة، بل لافتقاده إلى نية الفهم. أما حين يبلغ الإنسان درجة من العناد المعرفي، يُجنِّد فيها ما أوتي من أدوات فقط ليُبرهن على ما يجهله، ويجتهد في تكريس جهله كيقين، فذلك هو الجهل المركب في أقسى صوره: أن لا تعلم، ولا تعلم أنك لا تعلم، بل وتعتقد أنك وحدك الذي يعلم.
في المجتمعات التي يتعطل فيها العقل الإنساني عن ممارسة التفكير النقدي، تصبح حركة الجسد – وتحديدًا أدوات السيطرة الرمزية – تعبيرًا عن فراغ المعنى: تُستدعى سلطة الصوت المرتفع، وتُلوَّح رموز التأديب، وتُصافح الجهالة مؤسسات التوجيه، ليولد نموذج القابلية للجهالة، لا كحالة ظرفية، بل كبنية نفسية-اجتماعية تُسلم الفرد لاختيار الجهل طواعية، أو لتلقيه بوصفه مخلّصًا من الحيرة، وبديلًا عن عناء التفكر.
هنا تتقاطع هذه الظاهرة مع مفهوم الأغنوتولوجيا (Agnotology) الذي درسه روبرت إن. بروكتور ولوندا شيبينغر في كتابهما الجماعي “أغنوتولوجيا: صناعة الجهل وتفكيكه”، حيث يؤكدان أن الجهل ليس مجرد غياب للمعرفة، بل قد يكون نتاجًا مُصنعًا، يُنتَج ويُصان ويُروَّج له، عن قصد أو عبر البنية الثقافية، لغايات استراتيجية: سياسية، اقتصادية، أو أيديولوجية. فالجهل يُدار كما تُدار المعرفة، ويُموَّل كما تُموَّل الحملات الإعلانية.
الجهل المركب، في ضوء هذا التصور، ليس مجرد انغلاق معرفي، بل تواطؤ داخلي على تبني تصور للعالم مغلق، ينتقي من المعطيات ما يدعم رأيه المسبق، ويُقصي كل ما يخالفه. إنه شكل من أشكال الاستقالة العقلية، والتي سماها الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري “العقل المستقيل”، حيث يتخلى الإنسان عن مهمته التأملية، ويُسلِّم رأسه لسلطة رمزية، سواء كانت شيخًا، أو زعيمًا، أو شاشةً موجِّهة. هذا النوع من الجهل يغدو فاعلًا في صناعة الواقع لا ضحية له؛ فهو من يُعيد إنتاج الوهم، ويعادي العقل، ويخوِّن كل محاولة للفهم، ويُجهض كل انبعاث للتفكير.
أما القابلية للجهالة، فهي الأرضية القابلة لاختراق هذا النمط المعرفي، وهي لا تتعلق فقط بالفرد، بل بالنظام الثقافي ككل: حين تكون المعلومة نادرة أو مشكوكًا فيها، حين يُعامل التساؤل كجريمة، وحين يُكافأ الخضوع ويُقصى التفكير. في مثل هذه السياقات، لا يُنقل الجهل فحسب، بل يُعلَّم، ويُشرعن، ويُستبطن بوصفه فضيلة ونجاة.
ينبّه الكتاب إلى أن ثمة أنواعًا مختلفة من الجهل، أبرزها الجهل الطبيعي الناتج عن نقص المعرفة، وهو عارض يمكن تجاوزه. إلا أن الخطر يكمن في الجهل الانتقائي، حين يتعمد المرء أو المؤسسة إغفال معلومات مخالفة للهوى أو المصلحة، أو في الجهل الاستراتيجي، الذي يُنتج بشكل منهجي من قبل فاعلين – شركات، دول، نخب – لتشويش الرأي العام، أو لتعطيل قرارات مصيرية، كالتعامل مع التغير المناخي أو الإصلاح الصحي.
كل هذه الأنواع تتكرّر في المجال العربي: من تضليل الجمهور بمعلومات خاطئة، إلى استثمار الجهل في ترويج شعبويات فارغة، إلى تغييب التاريخ، وتشويه المعرفة، وتأليه الجهل باسم “بساطة الإيمان” أو “ثوابت الأمة”. وهكذا يتحوّل الجهل إلى سلطة معرفية مضادة، تستمد قوتها من العاطفة لا من البرهان، ومن الرتابة لا من الجدة، ومن الخوف لا من الحرية.
إن الجهل المركب – في ضوء هذه المعطيات – ليس مجرد عارض، بل حالة وجودية يختارها الإنسان حين يرتاح إلى ما يعرفه، ويرفض مغامرة السؤال. وهو ليس نقصًا في المعارف، بل عطبٌ في الإرادة، واختلالٌ في العلاقة مع الذات ومع العالم. إنه عقل قرر أن يستقيل، وجمهور رضي بأن يُقاد، ومؤسسات وجدت في الجهالة ضمانًا للاستقرار الزائف.
وإذا كانت أدوات السيطرة الرمزية تتحرك عندما يتوقف العقل، فذلك لأن العقل حين يُهمَّش، تبرز الغريزة بوصفها موجهًا: في صورة عنف، أو استقطاب، أو ولاء أعمى، أو احتقار للعقلاء. فالحركة التي لا يوجّهها وعي، توجّهها انفعالات مضطربة، وتحتكم لمصفوفات جاهزة من الانتماء والتخوين والتكفير.
يبقى إذًا السؤال الجوهري: كيف نُعيد للإنسان وعيه بمكانته؟ كيف نجعل من المعرفة مشروعًا للتحرر لا سلعة للاستهلاك؟ كيف نحمي أنفسنا من الوقوع في مصيدة الجهل المُصنَّع؟
إن الجواب لا يأتي من الخارج، ولا يُصاغ بمرسوم، بل يبدأ من حيث يبدأ كل نهضة: من جرأة السؤال، ومن شجاعة العقل
تعليقات الزوار ( 0 )