نظمت الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة ندوة علمية بعنوان: “أسئلة الرحلة والترجمة”، في السادس من يناير 2021، ابتداء من الساعة السابعة مساء عبر تقنية “زوم” نسق أشغالها الأستاذ محمد آيت حنا الذي اتضح له من خلال استقراء العنوان، واستجماع ما ورد بين ثنايا مداخلات الأساتذة؛ أن الندوة ركزت على رصد إشكالات الترجمة في النص الرحلي، وجدلية الرحلة والترجمة. فالنص الرحلي ينشأ في جو الترجمة، ورهان المترجم هو السعي إلى إحياء النص الرحلي من جديد، وإمكانية تلقيه بمكوناته التخييلية، وما يكتنفها من حمولات معرفية، مجالية، وثقافية.
تشكلت فصول الندوة عبر ثلاث مداخلات، أولاها كانت للأستاذ محمد الدخيسي بعنوان: “الترجمة في النص الرحلي”، طرح عبرها إشكالات مفاهيمية تتخلل النص الرحلي، سواء على مستوى الوصف والسرد، أو من خلال استيعاب الاختلاف بين الأنا والآخر؛ ما عبّر عنه بتجربة الغيرية. وتساءل الباحث: لَما كانت الكتابة الرحلية تتم بنقل المفاهيم الدالة على الاختلاف، فهل هذه العملية تظل سليمة، وتُقارب حد الموضوعية؟ هذا مع أنّ فعل الترجمة في النص الرحلي يحرص على ترجمة الغريب، والمدهش، الذي يحتاج في ترجمته إلى تشرُّب الثقافة المجتمعية، والموروث المحلي.
استند الأستاذ الباحث في مداخلته على نص رحلي لويليام لوبخيغ، وهو رحالة إنجليزي زار المغرب، وتشكلت مرئياته ومشاهداته بناء على التصنيفات التي وضعها في مجال اللباس، الأكل، الأماكن والمناصب. كما اعتمد مترجم الرحلة على المقابلات؛ بتوظيف أداة العطف مثل (أفندي أو الوزير/ باشا أو عامل أو قائد المنطقة/ طالب أو مفسر الفقه) كما اشتملت ترجمته على الجمل المفسرة للمصطلح مثل (كاشوف: يطلقونه على جزء من الرداء الذي يغطي أسفل الجسم/ الحايك: نوع من الرداء مصنوع من الصوف…) وهناك بعض المسميات التي يشرحها المترجم عبر توصيفها؛ من ذلك تتبعه لطريقة إعدادها (الجبن) أو (الحاكوم). كما أن هناك أسماء لا يتتبع المترجم سُبل شرحها، ويعزو الأستاذ الباحث ذلك إلى شيوعها في الاستعمال العربي، مثل (كسكس/ قاضي)، فتتداعى هذه الطرق المتخذة في ترجمة الواقع المرئي إلى النص الرحلي؛ لغياب مقابلاتها في اللغة الإنجليزية، وهنا تظهر صعوبة ترجمة الآخر، بل إن المترجم قد يجانب الصواب أحيانا من فرط ما يغيب عنه من المرجع الثقافي، حيث قابَل مسمى العيد الكبير بالمولد النبوي، أو ما أسماه الأستاذ الباحث بالإيحاء في الترجمة، كقول المترجم: (يضعون الرزة، ومن النادر أن يضعوا قبعة) وفي هذا كما -في غيره من التصنيفات المذكورة والجمل المفسرة- نسقٌ مضمَر، تتداخل فيه الخلفية المعرفية والإيديولوجية للمترجم، وبالتالي فإن سرد تجربة الغيرية هو ترجمة للآخر من ناحية، وهي أيضا ممارسة ثقافية وسياسية؛ فالمترجم في هذا النص حسب الباحث يُصدر أحكاما على الآخر، وهو يمتلك سلطة إعادة تركيب الواقع داخل الخطاب. وفي منحى آخر، فإن محاولة الاتصال بالآخر عن طريق الترجمة يعزز الاختلاف، لذلك، حسب الأستاذ محمد الدخيسي، فإن الغريب هو موضوع الاهتمام، وقارئ الرحلة يبحث عن الغريب والمختلف؛ فالنص الرحلي بذلك يكتنفه صراع المفردات، ونقلها من لغة الواقع المرئي المشاهَد إلى لغة المترجم، وكذا أحكام المترجم النسقية: انتظارات القارئ، وإكراهات الترجمة المنبنية على تجربة الغيرية في النص الرحلي.
ثاني المداخلات كانت للأستاذ حسن البحراوي بعنوان: “مراكش في مرآة الكُتاب الغربيين”، وقد بيّن الباحث في مستهل حديثه أن المسافة بين الرحلة والترجمة وهمية، وأنهما صنوان متلازمان في فِعل الكتابة؛ فالرحلة انتقال في المكان، ويتميز هذا الانتقال بعنصر الاختلاف بدْءا من اللسان، وعنصر الدهشة، ومغامرة الكشف، وحوار الذات مع الفضاء بمكوناته ونسيجه الثقافي. من هنا أوضح الأستاذ الباحث قيمة مراكش التاريخية؛ باعتبارها صورة المغرب المصغرة، ويطرح تبعا لذلك السؤال التالي: لماذا حظيت مراكش بهذا الاعتبار من قِبل الرحالة؟ فيجيب أن مراكش مكانٌ يجتمع فيه كل ما له صلة بالمخيلة الإنسانية، وقد شهدت الاحتفاء من خلال ما سطرته أنامل الزوار من بحوث ودراسات، وما أبدعته الكتابة الروائية والأدبية؛ وبالتالي فهناك حاجة مُلحة حسب الباحث إلى بيبليوغرافيا حول ما كُتب عن مدينة مراكش.
كما يشير الأستاذ الباحث حسن البحراوي إلى أنّ تعدد الأصوات والألوان في مراكش، يضفي عليها رونقا يُعجب الآخر الأجنبي، بل هناك من الزوار من يسكنها بألفة ووشائج مشدوهة، كما هو الحال عند الكاتب الإسباني غويتسولو الذي بقي في مراكش عدة شهور. وبين جمالية المكان وتأملات الآخر الأجنبي، ظهرت كتابات، حددها الأستاذ البحراوي من باب التمثيل في أربعة نماذج: أولها الروائية الفرنسية كوليت (Colette) التي جاءت بدعوة من الباشا الكلاوي، وأُعجبت بمراكش وبجماليتها، وتعدُّد الأصوات والألوان، رغم أنها لم تستطع التواصل مع الآخر، فألّفت كتاب ((notes marocaines وكتاب (prisons et paradis) وهناك نموذج ثانٍ يجسده “كلود أولي” الذي كتب (marrakech medine) وهو إبداع حكائي، يرصد من خلاله صور المكان بعين أجنبية، فيصف ساحة جامع الفنا، أضرحة الأولياء، والمنارة إلى غير ذلك من فسيفساء مراكش المتفرد والمتنوع. وهناك نموذج ثالث يمثله الكاتب الألماني “إلياس كانيتي” من خلال كتابه: “أصوات مراكش” حيث اهتم الرحالة بهذه الأيقونة التاريخية، كما لو كانت منطوقا عن العواطف ورافدا للتعبير عنها، وقد استغرق الكتاب سبعة عشر فصلا، نظَمها تعاطفُه مع السكان الذين كانوا يعانون من قسوة الاستعمار وسطوته، كما أكد على أن مراكش بمثابة نقطة تلاقٍ بين الصحراء والثلوج؛ فالمكان يعبر عن كينونة متكاملة. وختم الأستاذ البحراوي بنموذج رابع متمثل في الكاتب والروائي البريطاني “جورج أورويل” الذي زار مراكش سنة 1939 ومكث بها ستة أشهر، وحين عودته كتب مقالا بعنوان: “مراكش” وصف فيه الصور المأساوية التي ألحقها وباءُ التيفوس بمراكش، كما وصف صورة اليهودي في المدينة.
دعا الأستاذ البحراوي في نهاية مداخلته العلمية، إلى ترجمة هذه النصوص العربية؛ لتعريف القارئ المغربي والعربي بالمكان، من خلال نظرة الأجنبي المختلفة التي تحمل أهميتها ورؤيتها المتعددة.
كانت آخر مداخلة للأستاذ الباحث رضون ضاوي بعنوان: “ملاحظات على الترجمات العربية لأصوات مراكش” لـ”إلياس كانيتي”. وقد أكد الباحث على ضرورة امتلاك المترجم للمنهج الاثنوغرافي، وهذا من صميم التعمق في ثقافة الآخر، والإحاطة بمكوناتها وروافدها.
قسّم الباحث مداخلته إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول أورد فيه نماذج أسهمت في تقديم الكتاب، فهناك تقديم الأستاذ فوزي بوبيه، وتقديم الأستاذ سعيد علوش. قارب الباحث في الجزء الثاني الذي وسمه بملاحظات على الترجمة والمترجمين، ثلاث ترجمات للكتاب: ترجمة المصري صلاح هلال، التي تمّت من الألمانية إلى العربية، وترجمة كامل يوسف حسين، من الإنجليزية إلى العربية، وأخيرا ترجمة التونسي حسونة مصباحي، من الفرنسية إلى العربية.
كما طرح الأستاذ رضون الضاوي أهم القضايا والإشكالات التي تتناول هذه الترجمات، كمسألة الاثنوغرافيا ودورها في إحياء النص عبر الترجمة، وأن هذه الأخيرة بمثابة نقْل للثقافة. كما ذكر أنّ تعدُّد الترجمات أمر محمود وجيّد لعملية التلقي، لكنه يشير إلى أن حوار الترجمات للنص مهم، وهو ما كان منعدما بين المترجمين الثلاثة المذكورين آنفا. وقد وقف الباحث عند بعض الهفوات في الترجمات، سواء في عتبات النص أو فيما يخص غياب المترجم، وعدم تضمين بطاقة تعريفية له، مقابل تكريس سلطة الكاتب. عرض الباحث في الجزء الثالث، مشاكل تعترض الترجمات، من خلال سوء التعامل مع الأسماء، الأعلام أو الأماكن، والتي تتم ترجمتها بإخلال لدلالاتها، مما يؤدي إلى تلقّ غير سليم للنص، وهذا راجع بالضرورة -حسب الباحث- إلى عدم الإلمام بثقافة النص الأصلي، وبالبيئة المحلية. وبالتالي فإن الترجمة موصولة الاثنوغرافيا كمرجع مهم منهجي يقوم على تجسير العلاقة بين ثقافة النص الأصلي والنص المترجَم، وتوجيه عملية النقل. وقد أكد الباحث في آخر مداخلته على أن كتاب “أصوات مراكش” لـ”إلياس كانيتي”، يحتاج إلى ترجمة مغربية؛ نظرا لأهميته، وقيمته كنص رحلي، يرصد بعين أجنبية أصواتَ مراكش، ويعكس بمرآة الكتابة الغيرية صورة المكان، بتجلياته وبموروثه الثقافي.
تعليقات الزوار ( 0 )