كما كان متوقعا ارتفعت أسعار البترول والغاز والقمح بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، التي زادت في تدهور العلاقات الدولية بشكل لم يعشه العالم منذ عقود. لتستفيد الجزائر من هذا الارتفاع، في ما يتعلق بأسعار البترول والغاز، مهما كان تواضع كميات إنتاجها وتصديرها، وتخسر مع ارتفاع أسعار القمح الذي تعتبر من أكبر الدول استيرادا له في العالم، في وقت تعيش فيه كل منطقة الشمال الافريقي موجة جفاف، ستزيد حتما في الطلب على القمح، وكل المنتجات الزراعية الأخرى. ستكون دول مثل المغرب وتونس ومصر جزئيا، نتيجة كبر الحجم الديموغرافي، من أكثر المتضررين منها، باعتبارها دولا مستهلكة للقمح والنفط والغاز على حد سواء.
لتبقى الجزائر حالة متفردة، ونحن ندرسها اعتمادا على مخرجات الحرب الروسية الأوكرانية، التي أطلقنا عليها هذا الوصف المخل حتى لا ندخل في تفاصيل أبعادها الدولية الأكيدة. فقد توجهت الأنظار إلى الجزائر، لمعرفة كيف ستتصرف وما هي المواقف التي ستتخذها، وهي القريبة تقليديا من الروس، في وقت لم يستقر نظامها السياسي تماما من حالة الارتباك التي عاشها في السنوات الأخيرة، نتيجة الحراك. لتكون النتيجة أن الاستمرارية في المواقف التقليدية للجزائر هي التي كانت حاضرة، حتى ونحن نقارنها مع دول الجوار، كما ظهر ذلك في التصويت الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وهنا لا بد من العودة الى عقيدة الدبلوماسية التاريخية للجزائر، المرتكزة بدورها على عقيدة الجيش كمؤسسة مركزية داخل النظام السياسي الذي حافظ على توازناته، رغم كل محطات عدم الاستقرار التي عاشها البلد في العقود الأخيرة، وهو يمر بمرحلة اضطراب سياسي وحالة عنف وتغيير في الفكر الاقتصادي، وحتى تحول جيلي على مستوى قيادته، غابت على إثره الأجيال المرتبطة بثورة التحرير من على رأس مؤسسات الدولة، لم يظهر أنها أثرت في توجهاتها حتى الآن، عكس ما كان يعتقد ويتمنى الكثير من الملاحظين السذج الذين يجهلون الكثير عن الجزائر. محللون ومهتمون بالحالة الجزائرية بنوا كل فرضياتهم على بقايا الحرب الباردة التي تكون، حسب هذا الزعم، النخب العسكرية والسياسية الجزائرية الحاكمة، ما زالت تحت تأثيرها بالشكل التقليدي الذي عرفت به مرحلة الستينيات، وهي تحاول فهم سلوك الجزائر السياسي والعسكري الاستراتيجي، من دون ان ينتبهوا إلى محطات أكثر قربا، يمكن أن تكون أكثر حضورا لفهم وتفسير السلوك الجزائري، من هذه البقايا المزعومة للحرب الباردة، كما كان الحال مع محطة الربيع العربي، والتدخل الروسي في سوريا تحديدا، الحالة التي اهتم بها الفكر الاستراتيجي الجزائري أكثر من أي نظام سياسي عربي آخر، واستخلص منها الدروس على مستوى العلاقات الدولية، كرست لديه الكثير من القناعات القديمة وجعلته يهتم بالجديد، حتى وهو يُنوع في تسليح جيشه بشكل محتشم حتى الآن، قابل للتطور، مع بعض الدول الأوروبية كألمانيا وأمريكا اللاتينية وجنوب افريقيا، حتى إن استمر البلد في الاعتماد الكبير على التسليح الروسي التقليدي، في وقت زادت فيه الوفرة المالية للبلد، وارتفعت فيه الضغوط الإقليمية السياسية والعسكرية على الجزائر نتيجة ظاهرة الإرهاب التي استوطنت في دول الساحل، بعد انهزامها في الجزائر. لتكون محطة الإرهاب بما عرفته من ضغوط دولية رهيبة على الجزائر، بعد رفض الدول الغربية تسليم أسلحة متطورة للجيش الجزائري أطالت في عمر الحرب ضد الإرهاب، وزادت من رفع الفاتورة البشرية، من المحطات المهمة الأخرى التي استخلص منها الفكر العسكري الجزائري الكثير من الدروس، على غرار ما حصل مع ملف التدخل الروسي في سوريا – رسخت مكونات عقيدته العسكرية القاعدية. زيادة بالطبع على ما طرأ من جديد على ملف الصحراء الغربية، والتنافس المغربي – الجزائري القديم – الذي زاده تشنجا أكثر هذه الأيام، الحضور الإسرائيلي على حدودها الغربية للجزائر.
خلاف بين البلدين تم تدشينه بحرب الرمال عام 63 بين البلدين، بكل الأبعاد الإقليمية والدولية التي ميزت هذه الحرب، على غرار التدخل المصري لصالح الجزائر- المعلومات غير المعروفة تقول إن طائرة الرئيس مبارك، وهو ما زال طيارا مبتدئا، تم إسقاطها خلال المعارك الجوية من قبل الجيش المغربي، في وقت لم تكن الجزائر تملك أصلا سلاح جو- لتكون في الواقع هذه المعارك القليلة، زيادة على معارك أمغالا في منتصف السبعينيات، من التجارب العسكرية القليلة للجيش الجزائري خارج الحدود، إذا استثنينا المشاركة في الحرب ضد إسرائيل في 1967-1973، تكريسا للعقيدة الدفاعية للجيش الجزائري، حرب نتج عنها أول رفع جدي لأسعار البترول استفادت منه الجزائر في وضع معالم استراتيجية تصنيع في عز مرحلة حكم الرئيس بومدين، لتعرف الجزائر فترات وفرة مالية أخرى استمرت لصالح الشركات الغربية المتنافسة على السوق الجزائرية، كما هو حال الشركات الألمانية والإسبانية والإيطالية. لم تكن في المقابل لصالح الشركات الفرنسية الشريك الاقتصادي التقليدي للجزائر، كما كان يطمح الطرف الفرنسي، ما قد يفسر حالة تشنج العلاقات السياسية الجزائرية – الفرنسية. كما لم تكن لصالح الشركات الروسية التي عرف عنها عدم تنافسية فعلية داخل السوق الجزائرية. عكس الشركات الصينية، التي كانت على رأس المستفيدين، كما ظهر ذلك جليا خلال فترة حكم الرئيس بوتفليقة، وهي تفوز بعقود بمليارات الدولار في أكثر من قطاع.
حالة وفرة مالية مهما كانت مؤقتة لن تكون من دون تداعيات على الوضع السياسي الجزائري الداخلي، وليس الاقتصادي فقط، الذي يمكن أن نتوقع أن يعرف زيادة في أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع، ما سيؤدي حتما إلى تدهور أكبر في القدرة الشرائية للكثير من الفئات الشعبية والوسطى التي سيصل صدى القنابل الروسية على أوكرانيا إلى جيوبها. تبعات أكبر يمكن ان نضعها من جهة أخرى كفرضيات في ما يتعلق بالجوانب السياسية، كما تعلمنا من فترات وفرة مالية سابقة عاشتها الجزائر، يمكن ان تظهر على شكل تخلٍ عن مشاريع الإصلاح السياسي والاقتصادي مهما كانت متواضعة والعودة بقوة الى التسيير الزبوني للنظام، الذي سيزيد عدد الطامعين في ريوعه، في غياب نخب إصلاحية على رأس المؤسسات الرسمية، تفضل في المقابل تسيير مساراتها المهنية الشخصية، بدل المغامرة بالإصلاح الذي لم تتعود عليه ولم تتعلم كيف تنجزه فعليا، على أرض الواقع، بل تخاف منه، كما بينت ذلك في أكثر من محطة تاريخية قريبة .بكل ما يفترضه الإصلاح من ثقافة وسلوك فردي وجماعي بالحد الأدنى من المجازفة المطلوبة في إنجازه.
تعليقات الزوار ( 0 )