شارك المقال
  • تم النسخ

الثقافة وسؤال التقدم

بعيدا عن التعارف الكثيرة والمتباينة لمفهوم الثقافة، يمكننا اختصارا أن نعرفها من خلال عناصرها الأساسية، مثل: القيم والعادات والتقاليد والفنون والتاريخ المشترك بين أفراد شعب أو جماعة، إضافة إلى الجغرافيا أو الأرض. ولا بد لأي مقاربة لمثل هذا الموضوع أن تنطلق منها باعتبارها تضم أهم أنماط التفكير والسلوك البشري المتمركزة حولها أسئلة الثقافة المؤثرة سلبا أو إيجابا في صناعة التقدم.

تكتسب الشعوب والجماعات ثقافتها من خلال العادات والقيم والتقاليد الموروثة من جهة، ومن خلال التعلم والاحتكاك بثقافات مختلفة من جهة أخرى، مما يفسر إمكانية حدوث تغييرات ثقافية قد تكون بنيوية أحيانا. في المقابل تظل معظم المجتمعات متشبثة بمورثها الثقافي على علله إلى حد يعيق تقدمها وتطورها حسب تعبير جوستاف لبون (Gustave lebon) وغيره من المتخصصين في علمي النفس والاجتماع، وما مظاهر الحداثة والتطور البادية على أفرادها سوى قشور فيما يبقى الجوهر عصيا على أي تغيير ذي شأن، ولنا في إفريقيا والدول العربية خير مثال. فإذا كان الموروث الثقافي يحميها ويحصنها من الاختراق والانصهار في ثقافة الأخر، خاصة مع صعود تيار العولمة وهجمته الشرسة على الخصوصيات الثقافية في محاولة لخنقها واستبدالها بأخرى منمطة، لكنه قد يحرمها في الآن نفسه من الانفتاح على أفكار جديدة قد تستمد منها حلولا لمشاكلها ترقي بها إلى مصاف الأمم المتقدمة.

ليس تقدم شعب ما سوى تكافل أفراده وتكاملهم من أجل توسيع وتعميق القدرة الجماعية على ابتكار حلول لإشكاليات التنمية بهدف تحقيق الرفاهية للجميع، وهذا لن يتأتى إلا بواسطة بنية فكرية تؤمن بقيم التقدم الأساسية: العمل والإنتاجية والانضباط وغيرها لتكون الثقافة بهذا المعنى قاطرة للتنمية والازدهار وليست حجر عثرة في طريقه.

من المؤكد أن الدين الإسلامي يحث في تعاليمه على قيم العمل والأخذ بالأسباب وينبذ التواكل والكسل ويدعو إلى التأمل العقلي والتعاون والتكامل بين أفراد المجتمع، إلا أن انتشار مجموعة من القيم السلبية في المجتمع نتيجة عقود من التهميش وغياب نظام تعليمي فعال، أدى إلى خلق أفراد تنقصهم الرغبة والإرادة في بناء مجتمعاتهم بقدر حرصهم على مصالحهم الشخصية. في المحصلة لدينا تراكم قيمي سلبي يكرس هامشية مفهوم الوطن في حسابات الأفراد إلا إذا توافقت مع مصالحهم.

بيد أن التاريخ لا يبخل علينا بدروسه وعبره. إطلالة خاطفة على مسار الدول الأوربية مند ما يسمى بالعصور الوسطى حيث كان يسود الجهل وما يصاحبه من مظاهر التخلف على جميع المستويات، حتى مفهوم النظافة الشخصية كانت تعتريه مجموعة من الأساطير، جعلت من الاستحمام بالماء شبه محرم، كما وثق ذلك ساندور ماراي (Sándor Márai) في كتابه “اعترافات بورجوازي”، وهذا الأمر استمر طويلا في الأوساط الأوربية. كل هذا سيختفي تدريجيا مع بداية عصر التنوير من خلال نشر الفلاسفة والمفكرين لأفكارهم على نطاق واسع عبر الندوات العلمية والصالونات والمقاهي الأدبية وطبع الكتب والصحف، لتعتنق الشعوب الأوربية قيما جديدة مبنية أساسا على الحرية والمساواة والعمل وغير ذلك. قد يكون لهذا التحول الثقافي سياقه التاريخي الخاص به، ساهم في خلخلة البنية الثقافية للإنسان الغربي على مدى قرون طويلة مما نتج عنه في الأخير سيادة قيم جديدة تحترم الإنسان في ذاته، إلا أنه يبقى درسا قيما في التاريخ الإنساني.

في العالم الإسلامي برزت خلال القرن التاسع عشر ما يسمى بالنهضة العربية وهي حركة تنويرية عربية انتشرت في مجموعة من الدول العربية، أفضت إلى إحياء التراث العربي وتحقيقُهُ والنهوض باللغة والأدب وبلورت خطاب هوياتي لتقوية اللحمة العربية في مواجهة الهيمنة العثمانية والغزو الفكري الغربي. رغم أن رواد هذه النهضة من أمثال رفاعة الطهطاوي تبنوا شعارات الثورة الفرنسية لكن مفعولها ظل محصورا في الطبقات العليا الأرستقراطية في المدن، ولم ينجح في اختراق فعلي للجماهير العريضة لأسباب ذاتية وأخرى خارجية متعلقة أساسا بتغلغل الفكر الامبريالي وتقويض الاستعمار للثقافة الشعوب العربية، وبالتالي حرمانها من فرصة الانتقال الطبيعي والتدرج نحو بناء شخصية وطنية مستقلة، قادرة على تجاوز معضلة التخلف.

للتاريخ إذن أسراره ولا يفترض من شعوبنا إعادة إنتاج مسار الشعوب الأوربية بحذافيره لاعتبارات ثقافية وتاريخية لكن العبرة هنا تكمن في قوة الفكر والتنوير على خلق طفرات في بنى ثقافية ظلت غارقة في أساطير وممارسات عصية على الاختراق. ومن التاريخ المعاصر أيضا ما يلهمنا بدروسه ويقدم لنا نماذج أسرع تشكلا قد تتناسب مع حالتنا العربية المعاصرة، نستحضر هنا تجربة سنغافورة وحكايتها مع تنمية بدأت بالتعليم – باعتباره أهم ألية لإحداث الطفرات الثقافية في المجتمع- وانتهت ببناء دولة تتوفر على مقومات الحياة الكريمة لمواطنها. ولنلقي نظرة أيضا على تجربة اليابان ونهضتها المبنية أساسا على التعليم ولننتقل إلى تركيا وهي أقرب إلينا تاريخا وثقافة.

مما لا شك فيه أن لكل شعب تاريخه وثقافته يحددان بشكل كبير حاضره ومستقبله لكن استئصال قيم التخلف وغرس قيم التقدم بدلا منها من أجل الرقي بأوطاننا والحفاظ عليها ليس بعسير على شعوب خبرت كل المحن وتكالبت عليها كل القوى مستعمرة وحاربتها بكل بسالة.
*كاتب وقاص من المغرب

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي