أثار توقيع المملكة المغربية اتفاقا مع “إسرائيل” برعاية أمريكية يقضي باستئناف العلاقات بينهما، العديد من ردود الأفعال الداخلية والخارجية تراوحت بين الرفض والتنديد على اعتبار أن هذا المستوى من التطبيع يعتبر تأييدا غير مباشر للسياسات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، وتجاهلا للخروقات والجرائم الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني، وبين الترحيب والتأييد المغلف بالتبرير كون هذا التقارب المغربي مع الكيان الصهيوني تم بناء على صفقة اعترفت بموجبها الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة المغربية على الصحراء المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو المطالبة بالاستقلال عن المغرب.
حجم الحدث وتوقيته جعل التحليلات والقراءات بشأنه تتجاوز الجوانب السياسية والاقتصادية والاستراتيجية إلى مستويات تناولت تفكيك بروتوكول استقبال الوفد الأمريكي/”الإسرائيلي” ورمزيته وطريقته وإجراءات التوقيع على الاتفاق ومكانه ولغة الحديث بين ملك المغرب وأعضاء البعثة “الإسرائيلية”، حيث خاطب “مائير بن شباط” ذي الأصول المغربية ورئيس جهاز الأمن “الإسرائيلي” الملك المغربي بعبارة “الله يبارك في عمر سيدي” وهي عبارة لا تستعمل إلا من قبل المواطنين المغاربة كدلالة على الولاء المطلق للملك وللدولة المغربية. غير أن حضور رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني وأمين عام حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، هذه المراسيم بل وتوقيعه على اتفاق التطبيع، شكل بدوره موضوعا آخرا للتحليل خاصة وأن للقضية الفلسطينية موقعا وتمثلا خاصا في فكر ووجدان وخطاب الحركات الإسلامية بشكل عام.
أتخيل أن السيد سعد الدين العثماني، كان يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه، على أن يقف في صف واحد مع أحد ذئاب البيت الأبيض، وإلى جانب أحد رجال بنيامين نتنياهو، مع ما يحمله اسم هذا الأخير من معاني العنف والقسوة والتطرف والإجرام. أفترض كذلك أن العثماني لم يكن راغبا أبدا أن يسجل التاريخ والأرشيف المادي والرمزي جلوسه إلى جانبهم وورود توقيعه إلى جانب توقيعات عرابي التطبيع في صيغته “الترامبية”. أقول ذلك لأن السيد العثماني، وهو أحد مؤسسي ومنظري “جناح السلطة” في الحركة الإسلامية المغربية، ينتمي إلى الجيل الذي بنى خطابه وهويته ومشروعه من خلال الانحياز التام، والتبني الكلي لما يسمى في أدبيات الحركة الإسلامية ب”قضايا الأمة”.
لم يكن الإسلاميون عموما ينظرون لقضايا فلسطين والعراق والبوسنة والهرسك وغيرها، باعتبارها تجل لموازين القوى الدولية، ولم يكونوا يستحضرون أبعادها الجيوسياسية والجيوستراتيجية إلا بشكل محدود جدا. لذلك كان الاندفاع في التأييد قويا، والانخراط في النصرة بدون سقف أحيانا. من المفهوم والمطلوب أن تشكل قضايا من هذا القبيل منشطا رئيسيا ومحوريا لتنظيمات مؤسسة على مرجعية الدين بما تفرضه هذه الأخيرة من واجب النصرة ورفع الظلم عن المستضعفين والوقوف في وجه المحتلين والمستكبرين… وإلا فإنها ستفقد ركنا أساسيا من شرعيتها وتعريفها الإيديولوجي.
بالمقابل، يمكن القول دون مواربة أن هذه القضايا قدمت للإسلاميين “خدمات” جليلة، فبفضلها أسمعوا أصواتهم ومواقفهم وشعاراتهم، وأحيانا “استعرضوا بها عضلاتهم” وقدراتهم التنظيمية في مختلف مسيرات التضامن الشعبية التي اصطف في مقدمتها رموزهم وقادتهم. ولا يخفى كذلك أن فعلهم الميداني وخطابهم القوي في هذا الصدد، لفت الانتباه إليهم من قبل أبرز الفاعلين الدوليين والموجهين الرئيسيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي لطالما اعتٌبرت المسؤول الأول والأخير عن مآسي الأمة وعن الحروب التي يعرفها العالم العربي والإسلامي.
خلال مراحل دقيقة من تاريخ الإسلاميين المغاربة، مثل خيار الانحياز للمقاومة في فلسطين والعراق، والتنديد بالإبادة في البوسنة والهرسك، والإشادة ب”الجهاد الأفغاني”… أداة “للتميز” عن “الباقين” وشكلا من أشكال “التسامي”، وعاملا من عوامل ترسيخ وجودهم وبروزهم، لذلك لا يمكن نفي عامل الاستقطاب ولا تجاهل دور تثبيت الارتباط الوجداني والعاطفي لدى قواعد وأعضاء ومنتسبي هذه التنظيمات.
هذه إذن بشكل عام المحددات الكبرى التي وجهت علاقة الإسلاميين بقضايا الأمة. اليوم وفي سياق التطورات الأخيرة المرتبطة بإعادة تطبيع العلاقات المغربية الإسرائيلية، يبدو العدالة والتنمية على وجه الخصوص محرجا جدا إن لم يكن عاجزا عن اختيار الموقع المناسب والموقف السليم من التقارب المغربي الإسرائيلي، خاصة وأن الأمر متصل هذه المرة، وبشكل وثيق بقضية تنتمي لدائرة الثوابت الكبرى والمصالح العليا للدولة المغربية وهي قضية الصحراء.
ذلك أن الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء، يحمل في طياته نوعا من الإغراء ومستوى من الإنجاز غير المسبوق الذي يصعِّب على الجميع -وليس على العدالة والتنمية وحده- الرفض الكلي والمطلق للصفقة المغربية الأمريكية الإسرائيلية.
إذا كانت السياسة الداخلية قد دفعت العثماني وإخوانه إلى التعاطي مع ملفاتها وقضاياها؛ وفق تصور براغماتي متدرج، وفرضت تحولاتها على الحزب نقل آليات فعله السياسي إلى مستويات متقدمة من تدبير وتوجيه التوافقات والتوازنات والعلاقات مع مختلف الفاعلين الداخليين، فإن ماكينة التفكير والتحليل والتقدير، وميكانزمات الاستشراف والتوقع على مستوى السياسية الخارجية ضعيفة ومحدودة وجد متواضعة، وهو أمر ينطبق على كل الأحزاب المغربية. فلا هي مستقطبة ومستوعبة وحاضنة للكفاءات العلمية والأكاديمية المتخصصة، ولا قادرة على المساهمة في عملية التفكير الجماعي في شؤون السياسة الخارجية، ولا هي مستعدة لنقل جزء من اهتمامها وتخصيص نصيب من ميزانيتها وتمويلها لإنشاء خلايا تفكير أو مراكز للدراسات السياسية والاستراتيجية الموازية.
مأزق العثماني وحزبه اليوم يتجاوز ترتيبات وأسباب ونتائج الصفقة، ويتعدى ضرورات السياسة والاستراتيجيا. في السنة الماضية وجد الحزب نفسه في حرج سياسي/هوياتي كبير عندما قدمت الحكومة التي يترأسها مشروع القانون الإطار للتعليم الذي اعتبر آنذاك انتصارا للغات الأجنبية على حساب اللغة العربية، وصادق عليه مجلس النواب الذي يحوز فيه الحزب عدد المقاعد الأكبر. واليوم يجد الحزب نفسه في ورطة أكبر وأعمق عندما يعرّض أمينه العام حصنا إيديولوجيا كبيرا للاختراق وهو رفض التطبيع. فإلى أي حد تنذر هذه المؤشرات بوصول الحزب إلى مرحلة تفكك منظومة المفاهيم والتصورات الهوياتية والمرجعية التي بنى عليها تعريفه السياسي والإيديولوجي؟
- باحث في شؤون السياسة الخارجية المغربية
الذئاب الملتحية التقت مع ذئاب البيت الأبيض.. أين يكمن الحرج في نظرك؟؟