شارك المقال
  • تم النسخ

البوليساريو والجماعات الإرهابية: تحالفات هجينة في خدمة مشاريع الإرهاب المتوحش

يقول منظر الحرب كارل فون كلاوزفيتز في كتابه الشهير “عن الحرب”:


“يمكن أن تتخذ الحرب أحد شكلين، بمعنى أن هدفها إما هو التغلب على العدو –بشله سياسيا أو تعجيزه عسكريا- وإجباره بذلك على قبول أي نوع نريده من السلام. أو أن تتوخى فقط احتلال بعضاً من مناطقه الحدودية وعندها إما نعمل على ضمها إلى أراضينا أو استخدامها كورقة رابحة في مفاوضات الصلح”.


هذا “الحساب الاستراتيجي” (Le calcul stratégique) يفسر إلى حد كبير المناورات العسكرية الأخيرة للبوليساريو ومحاولاتها المتكررة وضع اليد على منطقة الكركرات رغم أنها تدخل، أمنيا، ضمن نطاق المناطق المعزولة السلاح والخاضعة أمميا لمراقبة المينورسو، وواقعيا وقانونيا للسيادة المغربية.


إن خطورة الوضع في الصحراء المغربية ليس مرتبطا فقط بطموحات الأجندة الانفصالية التي تتبناها جبهة البوليساريو بدعم وتمويل من النظام الجزائري الذي يبحث عن إيجاد مخرج للتوترات الداخلية وتصدير الأزمة نحو المغرب كعادة نظام الجنرالات في بحثه عن متنفسات لتوجيه الشعب الجزائري بعيدا عن حقيقة مطالبه الاجتماعية والاقتصادية، بل إن الخطر الأكبر يكمن في تلاقي أطروحة البوليساريو مع استراتيجية الجماعات الإرهابية في محاولاتهم المتكررة لخلق “مناطق التوحش” داخل التراب المغربي، وهي المناطق التي يعتقد الطرفان بإمكانية حسمها عسكريا بينهما أو حتى إمكانية تقاسم النفوذ كما حصل في منطقة جاو غرب مالي حين تقاسمت حركة تحرير أزواد وجماعة أنصار الدين للسلطة في المدينة قبل أن تتدخل القوات الفرنسية لفرض النظام في المنطقة بعد عملية “سرفال” العسكرية سنة 2013.


وإذا كانت الأرضية الإيديولوجية للبوليساريو والحركات الجهادية تختلف حسب الهدف السياسي وأيضا البنية العقدية والسلوكية والأهداف الاستراتيجية للطرفين فإن هناك من يرى أن هناك نقاط التقاء بين الأطروحتين قد تفسر رسائل الود بين الطرفين في الآونة الأخيرة، خصوصا بعد التصريحات التي صدرت عن قيادات بعض التنظيمات الإرهابية ودعمها الصريح للبوليساريو في تصعيدها الأخير ضد المغرب.

في هذا السياق، ترى التنظيمات الإرهابية أن المغرب يبقى من الدول المرشحة لتكون هدفا استراتيجيا لمشاريعها من خلال تلاقي مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية ترى فيها هذه التنظيمات مقدمة للتحرك الميداني في اتجاه محاولة إخضاع المغرب لأجنداتها التخريبية. وهنا نحيل على أهم مرجع حركي يُوجِّه تكتيكات التحرك عند الجماعات الإرهابية في محاولتها المتكررة لوضع يدها على الدول العربية والإسلامية التي “رشحتها الدراسات” (حسب تعبير هذه الجماعات) لتكون هدفا من أهداف “التمكين”، ويتعلق الأمر بكتاب “إدارة التوحش” لمؤلفه أبو بكر ناجي والذي يقدم لنا وصفا للشروط الواجب توفرها في الدول التي يجب أن يتوجه إليها النشاط “الجهادي”، فيقول في الصفحة 16 ما نصه:
“بالنظر إلى الروابط المشتركة بين الدول التي يمكن أن يحدث فيها مناطق توحش نلاحظ أنه يجمعها بعض، أو كل المقومات الآتية:

  • وجود عمق جغرافي وتضاريس تسمح في كل دولة على حدة بإقامة مناطق بها تدار بنظام إدارة التوحش.
  • ضعف النظام الحاكم وضعف مركزية قواته على أطراف المناطق في نطاق دولته بل وعلى مناطق داخلية أحيانا خاصة المكتظة.
  • وجود مد إسلامي جهادي مبشر في هذه المناطق.
  • طبيعة الناس في هذه المناطق، فهذا أمر فضل الله به بقاعاً على بقاع.

كذلك انتشار السلاح بأيدي الناس فيها.
إن إسقاط هذه الشروط على البيئة الاستراتيجية المغربية يجعلنا أمام ثلاث مؤشرات رئيسية يمكن أن تشكل مصدر قلق للمغرب وأيضا نقاط للتحالف والتنسيق بين هذه الكيانات الإرهابية مجتمعة بما فيها البوليساريو وهي:

طول الحدود الذي يجعل من مسألة التركيز الأمني جد مكلف ماليا وبشريا مع محاولة البوليساريو توسيع مساحة الاشتباك لتفادي مواجهة مباشرة ومركزة مع الجيش المغربي المتمرس على أساليب الحروب الكلاسيكية (مناوشات المحبس).

  • وجود امتداد (ولو ضعيف) للأطروحة الانفصالية في بعض المدن المغربية خاصة جنوب المملكة.
  • وجود خطاب جهادي لا يؤمن بعقيدة الوطن وقادر على الانتقال من خطاب المهادنة والمساكنة إلى خطاب التكفير والتفجير متى تغيرت محددات البيئة الاستراتيجية المغربية.
    – من خلال هذه المعطيات، يمكن أن نفهم دوافع دعم التنظيمات الإرهابية لجبهة البوليساريو حيث تطمح الأولى إلى دفع الثانية لخلق “مناطق للتوحش” في الداخل المغربي كمقدمة لدخول التنظيمات الجهادية على الخط ومحاولة فرض واقع أمني جديد في المنطقة، خاصة وأن البوليساريو ليست لها المقومات أو العمق الشعبي الذي يجعلها قادرة على إحداث تغيير أمني وسياسي في منطقة الصحراء المغربية.
    معطى أمني آخر يمكن أن يكون مقلقا مرتبط بالتحالفات الجديدة بين التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء والتي ترى في المملكة المغربية أكبر عدو لها (إمارة المؤمنين) على عكس الجزائر التي اعتادت على توجيه واختراق هاته التنظيمات الإرهابية، بل وهناك قرائن قوية على وجود تفاهمات بين الطرفين في إطار المنظومة الفقهية “للمتاركة” (اتركوا الترك ما تركوكم) والتي تمنح هذه التنظيمات هامش كبير لحرية التنقل والتحرك في المناطق الجنوبية للجزائر في مقابل عدم استهداف العمق الجزائري بضربات نكاية من طرف هذه التنظيمات.


إن الطبيعة الإرهابية لعناصر جبهة البوليساريو تفضح التماهي الكبير بين طموحاتها وأهداف التنظيمات الجهادية وهو ما يفسر غياب أي اصطدام مباشر بين الطرفين بل والتحاق عدد كبير من عناصر البوليساريو بالتنظيمات التكفيرية في منطقة الساحل والصحراء خصوصا التنظيمات الفرعية المرتبطة بتنظيم القاعدة ومن يطلق على نفسه تنظيم “الدولة الإسلامية”. وهنا يمكن الحديث عن شخصية المدعو عدنان أبو الوليد الصحراوي (لحبيب ولد علي ولد سعيد ولد يماني) زعيم من يطلق على نفسه تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، وهو القيادي في جبهة البوليساريو الذي كان اسمه مدرجا على قوائم الإرهاب في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يتم تحييده من قبل القوات الفرنسية في إطار ما عرف عسكريا وإعلاميا بعملية “بارخان”.


أمام هذا الواقع الذي حاول فرضه الذراع العسكري لنظام الجزائر، تحرك المغرب بذكاء سياسي ودهاء استراتيجي لوضع حد لاستفزازات جمهورية الوهم ونجح في فرض واقع عسكري منطقي وقانوني تم تعزيزهما بإجماع دولي على مشروعية التدخل المغربي في منطقة الكركرات، وذلك بالتزامن مع توالي افتتاح التمثيليات الدبلوماسية في أقاليمنا الجنوبية كمؤشر على مرور المغرب إلى فرض سياسة الأمر الواقع وتجسيد حقوقه التاريخية والقانونية واقعا على الأرض في ظل اقتناع المجتمع الدولي بصوابية الطرح المغربي كمقدمة لطي هذا النزاع المفتعل والذي عمر أكثر مما يجب.


ولعل المجهودات التي قام بها المغرب، بتوجيه شخصي، من الملك محمد السادس تجعلنا نطمئن إلى المقاربة الملكية الحكيمة لقضية الصحراء المغربية خاصة وأن هذه التوجيهات تتقاطع مع الفهم الاستراتيجي لإدارة الحروب والذي تشبع به جلالة الملك بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية. وهنا نجد، على سبيل المثال لا الحصر، بأن ما قام به المغرب يتقاطع مع الطرح الاستراتيجي الذي طرحه المنظر البريطاني بازل ليدل هارت حين قال في كتاب “الاستراتيجية: نظرية التقرب الغير مباشر”ما نصه: ” فلو أريد إجبار العدو على الخضوع فلابد من وضعه في موقف أسوء حتى من التضحيات التي نطالبه بتقديمها، وأن لا تكون مصاعب هذا الموقف الذي نضعه فيه عارضة أو مؤقتة بطبيعة الحال، أو أن لا تبدو كذلك على الأقل، وإلا فسوف لن يستسلم العدو، بل سينتظر لحين تحسن الظروف أو الموقف”.


لقد نجح المغرب في تنشيط الآلية الدبلوماسية مع التعبير على استعداده العسكري الحازم كلما لزم الأمر، وذلك بموازاة مع اقتحام القلاع التي لازالت تساند الأطروحة الانفصالية واستمرار اختراق مناطق نفوذ الأطروحة الانفصالية خاصة في القارة الإفريقية وأمريكا اللاتينية. كما أن المغرب واصل ضغطه على الهيئات التقريرية في الأمم المتحدة من خلال التأكيد على أن أي إخلال بالواقع الأمني في الصحراء من شأنه أن ينعكس سلبا على البيئة الاستراتيجية الأمنية بالمنطقة المتوسطية ويشكل تهديدا إضافية للجارة الأوروبية خصوصا وأن هذه الأخيرة لازالت تلعق يوميا مزيدا من الجراح من جراء الضربات النكائية التي تقوم بها التنظيمات الإرهابية على أراضيها من خلال ظاهرة الذئاب المنفردة أو ما يصطلح عليها بظاهرة الإرهاب المتجول.

باحث في الحركات الجهادية واستراتيجيات الأمن القومي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي