اِعلم أخي أختي، أنه يتجدد النقاش، كل موسم الانتخابات، حول فعل المقاطعة أو المشاركة، ومدى فاعلية ذلك، وهذا أمر محمود في حد ذاته، ولا يدعو لأي قلق؛ لكن اختلاف وجهات النظر غالبا ما يكون سببا في ترك آثار خطيرة جدا بين أصحاب التيارين، مما يجعل تبادل التهم بينهما من أهم مظاهر ذلك؛ بل يبلغ الأمر بهم تخوين بعضهم البعض، رغم الاتفاق الحاصل بينهما حول حرية استقلال المرء في اتخاذ مواقفه وأراءه؛ كما أن تبادل التهم والتخوين لا يقتصر على هؤلاء فقط، بل يشمل حتى أبناء نفس التيار، حيث يتفنن كل طرف في تبخيس مجهودات خصمه، أو مخالفه بتعبير أدق، سواء تعلق الأمر بتيار المقاطعين فيما بينهم أو تيار مؤيدي المشاركة.
وعليه، فإن إعادة النظر في مثل هذه الأفعال لأمر واجب علينا جميعا، حتى إن أحطنا بما يكفي من الجوانب، استطعنا اقتراح بدائل تُسهم في تجاوز أهم الآثار السلبية لاختلاف أصحاب التيارين السالف ذكرهما؛ وهذا لا يعني محاولة اقصاء تيار والانتصار للآخر، لأن من سنن الكون عدم تحصيل الإجماع فيما يعتبر من القضايا التي لا تقبل الاختلاف، فكيف بالقضايا ذات البعد السياسي بامتياز.
وبالتالي، فإن الإحاطة بمختلف جوانب الموضوع، في مساهمة كالتي بين أيدينا، أمر صعب التحقيق، بيد أنه سنكتفي ببعض الإشارات التي ستساعدنا في فك بعض الشفرات، وكذلك في محاولة إقناع الطرفين بضرورة الأخذ بمبدأ الحرية والاستقلال، وكذلك مبدأ النسبية الذي ملأوا به الدنيا صخبا وشعارات.
إن مؤيدي المشاركة في الانتخابات، وكذا مقاطعيها، يختلف أمرهم حسب الظروف وما تقتضيه مصالحهم تارة، ومطامعهم تارة أخرى؛ فنجد ثلة منهم، ليست بالقليلة، تعمل على تغيير مواقفها من الانتخابات، إن سلبا أو إيجابا، وفق تغير مصالحها، أو قل بشكل أدق مطامعها؛ مما يجعل الواحد منا يتريث في قبول كل الدعاوى المقدمة بحجة المشاركة أو المقاطعة، لأن جل حججهم تتلاشى في رمشة عين وهم يناقضون أنفسهم في التغيير الحاصل والمفاجئ.
ولهذا، نجد صعوبة في تحديد الموقف النهائي لمن يأخذ بالمقاطعة أو المشاركة، لاسيما من اشتهر بالمقاطعة أصالة؛ ذلك أن المشارك في نظر المقاطع خائن وصاحب مصالح شخصية، عكس المقاطع الذي يُعتبر عدميا وفاقدا للرؤية من الطرف الآخر؛ لأن العدمي الفاقد الرؤية من المنطقي أن يصير مشاركا وصاحب مبادرة، دون خلق أي إشكال منطقي في نظر مؤيدي المشاركة؛ حيث أن الانتقال من لا شيء إلى شيء، بعد اتضاح الرؤية، تصرف مقبول؛ لكن في المقابل، يصعب استيعاب الالتحاق بجماعة الخائنين والانتهازيين، حسب تعبير المتقلب بين المشاركة والمقاطعة؛ بل قل حسب ما تقتضيه مطامعه بالدرجة الأولى، وليس ما تقتضيه المصلحة العامة حسب زعمه.
ولعل الإشارة إلى الإشكالات المنطقية التي مرت معنا، رغم ما قد تخلقه من نقاش، وربما ما سيتحمله مثيرها من انتقادات من طرف أهل المقاطعة بالدرجة الأولى، لم تكن نتيجة طرف فكري ولا إثارة النقاش من أجل النقاش، وإنما من أجل تجاوز الأزمة التي تتسبب فيها هذه الاضطرابات والتقلبات التي تعرفها الساحة السياسية بالمغرب؛ ولربما الثبات على موقف واضح مهما كان متطرفا، أفضل بكثير من التقلب بين المواقف، لأنه يساهم في وقف هدر الزمن السياسي وتضييع الفرص، وكذلك يعمل على إيقاظ الهمم للبحث عن الحلول، سواء ممن اصطف في جانب المقاطعين أو المشاركين؛ وللتذكير، فإن المشاركة السياسية لا تعني بالضرورة المشاركة في الانتخابات، وإنما مقاطعتها لهي من صلب المشاركة السياسية، لأنها تحسن من جودة عمل المؤسسات بشكل أو بآخر، ولا يسمح المقام للتفصيل أكثر.
وعليه، فإن تجاوز هذه الإشكالات لتحقيق النجاح الذي تعتبر غاية كل الأطراف رهين بتجاوز حالة الجمع بين المتناقضات، وكذلك العمل على إعادة النظر في تصرفاتنا، وما مدى مطابقتها للمنطق السليم، حتى يتحقق فيها الانسجام ولو في مستوياته الدنيا؛ بل حتى تختفي بعض مظاهر البؤس السياسي، كالتي يتسم بها عاشقو اللامنطق ومحبو اتهام الغير بأقبح النعوت؛ وإنما أملنا أن لا نرى، بعد اليوم، من يدعو إلى مقاطعة الانتخابات في نفس اليوم الذي يتمنى لو أتيحت له فرصة التصويت لصالح فلان أو علان، لكونه غير مسجل في اللوائح الانتخابية، أو صفته القانونية التي لا تسمح له بالجمع بين نمطين من التصويت على سبيل المثال؛ ولعل الانتخابات، التي تشهدها بلادنا اليوم المتعلقة بفئة خاصة من المواطنين، أبانت عن تضارب المبادئ عند من يشارك، بقوة، بحجة تحقيق المصلحة العامة، ويدعو لمقاطعة غيرها من أصناف الانتخابات بحجة كثرة الانتهازيين والخونة، رغم علمه المسبق المساهمة في جعل بعض الأسماء من ضمن هؤلاء في لائحة الانتهازيين والخونة حسب تعبيره بطبيعة الحال.
وعلى سبيل الختم نقول: إن موسم الانتخابات بدأ، ولكل واحد منا الحق في اتخاذ ما يناسبه من مواقف؛ بيد أن من يعتبر نفسه مناضلا ومفكرا، بل منقذا لنا من الظلام الذي نعيش فيه، أن يتحرى المنطق السليم في طريقة تبني الآراء أولا، وعدم تخوين غيره أو التنقيص من شأنه، سواء فضل صنف المقاطعين أو المشاركين؛ وإنما الواجب الأخلاقي يقتضي تقييم المرء لنفسه وإعادة بناءها، ليكون قدوة لغيره بالأفعال، لا بالأقوال والشعارات؛ ذلك أن المرء لم يعد يعنيه كثرة الشعارات ولا تبادل الاتهامات، فضلا تقسيم المجتمع إلى خائن وانتهازي، بعدما تبين أن ممتهني التخوين هم سادة الانتهازيين رغم كثرة الشعارات واتقانهم فن دغدغة المشاعر وغير ذلك.
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.
تعليقات الزوار ( 0 )