بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تساءل المحللون عن جدوى استمرار حلف (الناتو) مع تلاشي التهديد الأكبر له، وكانت الإجابة جاهزة في إعلان فيينا عام 1991م بشأن تأسيس مجلس تعاون الشمال الأطلسي، وهو هيئة تضم الناتو ودولا من تركة حلف وارسو.
فعلى الرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي فإن الناتو كان يهدف إلى منع يقظة روسيا من خلال الهيئات الجديدة، وانتقل الدور الأساسي ل (الناتو) من تلك المساحة من التأهب لحرب باردة إلى التطويق الكابح لأي يقظة روسية جديدة مهما يكن شكلها وطبيعتها. وهو ما يدفع إلى التساؤل حول دفوعات روسيا ونوايا أمريكا ووضعية دول أوروبا في ظل هذا المخاض؟
لقد تم التأكيد في اجتماع افتراضي عقده حلف الناتو مع الرئيس الأمريكي (جوبا يدن) وقادة أوروبا حول إعطاء توضيح حول الأنشطة العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا والتأكيد على أن أي هجوم روسي ضد أوكرانيا سيكون له عواقب وخيمة وتكون كلفته باهظة.
هذه الأنشطة التي كانت بمثابة مناورات عسكرية روسية -بيلاروسية، حملت إسم (عزيمة الحلفاء 2022 )، تستخدم فيها القوات البرية والمدفعية وأنظمة الطيران والدفاع الجوي وهو ما اعتبرته روسيا بأن جزء مهم من هذه المناورات يعمل على تقييم قدرات البنية التحتية للنقل، من أجل ضمان نقل الوحدات العسكرية الروسية الى أراضي بيلاروسيا، وضمان استقرار الوضع عند حدود الدولتين الحليفتين، وجعل عملية التحركات الروسية عبارة عن عملية دفاع وليس عملية غزو هدفها تأمين العمق الاستراتيجي.
وهذا ما أثار قلق أمريكا وحاولت من خلال ذلك نشر الرعب وادعاءات بمحاولة غزو وشيك روسي لأوكرانيا، وذلك راجع طبعا إلى أطماع الولايات المتحدة الأمريكية في أوكرانيا من خلال عقد الشراكة الاستراتيجية بين أمريكا وأوكرانيا، والذي وقع عليه وزير خارجية البلدين (أنتوني بلينكن وديميترو كوليبا)، لأن التركيز على عنوان الديموقراطية في مواجهة الديكتاتورية كواحدة من المفردات الموروثة من الحرب الباردة، حاضرة بقوة في نهج الولايات المتحدة الأمريكية الاضطراري ما بعد ترامب (التمويه القيمي).
لأن المحاولة الأمريكية لضم أوكرانيا، ظهرت جلية ومباشرة خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فكان الهدف من ذلك هو منع أي حالة اتحادية قد ترى النور. رغم أنه حتى بعد الإنهيار، فروسيا وأوكرانيا حالة خاصة جدا داخل الإتحاد الكبير، كالعمالة المهاجرة الأوكرانية تقصد الوجهة الروسية عادة نظرا إلى عوامل اللغة والبيئة المشتركين وأنماط العمل.
حيث أن استراتيجية إعادة توزيع الجهود العسكرية الأمريكية باتجاه روسيا والصين تظهر بشكل جلي في الاتفاقية، ولاسيما مع تخصيص بند عن التعاون الأمني ومواجهة ما أسمته (العدوانية الروسية)، فهنا تختلف الدعاية الأمريكية شكليا عن سابقتها في الحرب الباردة. فعندما كانت الدعاية خلال تلك الحرب تتمثل بالدعوة إلى الانسحاب من أيديولوجيا إلى أخرى، تقوم الدعوة اليوم على أساس تعزيز السيادة والتحضير لمواجهة (التغول الروسي).
إضافة إلى نشاط الناتو في عقد اتفاقيات الشراكة من أجل السلام، وهذه الاتفاقيات مصممة من أجل تفعيل التعاون مع عدد من جمهوريات الاتحاد السابقة، والتي لا يمكن ضمها مباشرة إلى الناتو، وبالتالي، يتم الاتفاق على عدة سبل للتعاون (عسكرية وأمنية في الدرجة الأولى) من دون الحاجة إلى عضوية. حيث استهدفت هذه البرامج دولا مثل أذريبجان وجورجيا وكازاخستان وليتوانيا……وغيرها.
إلا أنه من خلال تاريخ العلاقات الدولية في تلك المنطقة، يمكن القول إن الهدف الدائم لروسيا القيصرية، وما تلاها مع الاتحاد السوفياتي، وصولا إلى روسيا الحديثة بقيادة بوتين، كان يتمحورحول الهيمنة على هذه الدول تحت عنوان (الجوار القريب).
لأن تصنيف الدول الروسية انضمام أوكرانيا إلى حلف الشمال الأطلسي ضمن إطار تهديد الأمني القومي، وعدم القبول بالتراجع عن الموقف الدائم لإقليم (دو نباس) لأسباب قومية، أو ملف شبه جزيرة القرم لأسباب استراتيجية.
إضافة إلى كون لدى بعض الأقطاب الأوروبية قناعة بعدم جدوى المواجهة مع الدولة الروسية في مجال تعتبره الأخيرة مصيريا، ولذلك تكونت لديهما قناعة بخيار التحاور معها والبحث عن ضمانات متبادلة، يشكل الالتزام بها مدخلا لتهدئة طويلة المدى بين الطرفين.
وهو ما أكده ضمنيا الباحثان في معهد كارين غي (جوليا جور جانوس ويوجين رومر) في دراسة بعنوان (الطموحات العالمية لروسيا)، ويقولان فيها ان واحدا من أهم أضلاع السياسة الخارجية الروسية هو المحافظة على عمق استراتيجي ومسافات أمان كافية ضد الاعتداء الخارجي ولاسيما مع مساحات الدولة الشاسعة وحدودها المترامية الأطراف.
وبناء عليه، يمكن القول ان فكرة الحرب لن تتوارد الى الذهن الأمريكي، لصعوبة تقدير الخسائر المتوقعة، لذلك فالخيار الأمريكي يفرض عقوبات على الدولة الروسية، قد يتعارض مع المصالح الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي، لأن هذا الأخير من خلال تقدير مصالحه، لن يكون معنيا بالتصعيد الأمريكي الذي يناور خارج أرضه. والمتيقن بأن أي انهيار أو تهديد للأمن لن يؤثر بشكل مباشر في الأمن القومي الأمريكي، وإنما سيطال دولا تشكل في وعي المؤسسات الحاكمة الأمريكية مجرد بيادق يمكن التضحية بها أو المساومة عليها في رقعة الشطرنج الكبرى.
وعموما يبقى هاجس حصول روسيا على الضمانات الأمنية بعدم تمدد الناتو إلى حدودهم، ووقف نشر الأسلحة الهجومية في دول أوروبا الشرقية، قائما، وهو التزام بتحقيق نتيجة تريده روسيا خطيا، بسبب عدم الثقة في التعهدات والتزامات الأمريكيين السابقة.
وبالرغم من ذلك تبقى الحرب بين الروس والناتو خيارا غير مرجح في المرحلة القصيرة والمتوسطة. إلا أن هاجس التهديد بالضربة يبقى أكثر وقعا وتأثيرا من الضربة نفسها.
*باحث في القانون الدولي العام
تعليقات الزوار ( 0 )