أطر الدكتور عبد الرحيم موهوب، الباحث في علم الاجتماع القانوني، محاضرة علمية مثيرة تناول فيها المسطرة الجنائية من منظور سوسيولوجي، كاشفا عن الأبعاد غير المرئية للقانون الإجرائي، باعتباره انعكاسًا لعلاقات القوة داخل المجتمع، وليس مجرد آلية لضمان المحاكمة العادلة.
في مستهل محاضرته، أكد الدكتور موهوب أن التصور التقليدي للقواعد الجنائية كمجموعة من الضمانات الإجرائية المحايدة يحتاج إلى مراجعة جذرية، إذ إن هذه القواعد تمثل، في العمق، بنية سلطة أكثر منها أدوات عدالة. واستند في طرحه إلى مقولات ميشيل فوكو، موضحًا أن الدولة، من خلال إجراءاتها، لا تحاكم الفعل بقدر ما تُنتج الفاعل وتصنفه وفق تمثلها الخاص للانحراف.
وأوضح موهوب في محاضرة له في معهد الصحافة والإعلام السمعي البصري بمدينة الناظور، أن النيابة العامة، على سبيل المثال، ليست جسما محايدا كما يفترض القانون، بل هي تجسيد لإرادة الدولة وسلطتها الرمزية، تتحكم في مسار الدعوى وتقرر، من موقعها المهيمن، من تستهدفه باسم العدالة، استنادًا إلى تصورات الدولة للانضباط والانحراف، في انسجام مع أطروحات بيير بورديو حول الهيمنة الرمزية.
وأضاف موهوب أن الشرطة القضائية تمثل بدورها مؤسسة لإنتاج الجريمة لا فقط لضبطها، مستشهدا بأعمال هوارد بيكر حول “وسم” الأفراد وتصنيفهم كمجرمين وفق معايير اجتماعية أكثر منها قانونية. واعتبر أن الفئات الهشة كالفقراء والمهمشين تُستهدف أكثر من غيرها، لا على أساس الأفعال، بل على أساس الانتماء الطبقي والثقافي.
في محور آخر، أشار المتحدث إلى أن الإجراءات الجنائية تخفي، وراء مظهرها القانوني المحايد، تمييزًا طبقيا مقنّعًا. فكما قال كارل ماركس، القانون في المجتمعات الطبقية ليس سوى إرادة الطبقة المهيمنة وقد تم تشريعها. وهذا ما يفسر، حسب موهوب، استفادة الأثرياء من ضمانات فعلية بفضل المحامين والنفوذ، مقابل معاناة الفقراء من شدة الصرامة الإجرائية.
وأكد الدكتور موهوب أن الغاية من العدالة الجنائية، وفق تصور إميل دوركايم، ليست فقط ردع الجريمة بل إعادة إنتاج النظام الأخلاقي للجماعة، وهو ما يجعل العقوبة وسيلة لفرض الطاعة الاجتماعية، لا لإصلاح الجاني. وذهب إلى أن المحكمة ليست إلا مسرحًا حديثًا لطقوس الطاعة، حيث تأخذ الجلسات القضائية طابعًا شعائريًا يعيد تشكيل سلطة الدولة بشكل رمزي، كما نبه إليه بول ريكور.
وفي رصد لتطور القوانين الإجرائية، لاحظ موهوب تحوّلًا في عقل الدولة، حيث لم تعد غاية العدالة الجنائية هي كشف الحقيقة فقط، بل إدارة المخاطر، على غرار ما أشار إليه الفيلسوف أولريش بيك في مفهومه لـ”مجتمع الخطر”. وأوضح أن هذا التحول يفسر تنامي الظواهر الأمنية مثل الاعتقال الاحتياطي المفرط والمراقبة الرقمية باسم مكافحة الإرهاب.
وختم الدكتور موهوب محاضرته بالتأكيد على أن المسطرة الجنائية، في جوهرها، تمثل مرآة لمخيال الدولة والمجتمع، فهي تعكس تصورات السلطة للعدالة والانحراف والآخر المختلف. واعتبر أن قراءتها السوسيولوجية ليست ترفًا فكريًا، بل مدخلًا أساسيا لفهم “اللاعدالة المقنعة” وطرح سؤال الإصلاح الحقيقي لجوهر العدالة، لا لآلياتها فقط.
تعليقات الزوار ( 0 )