Share
  • Link copied

استخدام رثاء خالد الجامعي كمرآة نرجسية… أو في غرض مدح الموت لتمحيد “الأنا”!

لم أكتب عن خالد الجامعي بعد وفاته، لا لأن لحظة الفقد مرت خفيفة كما تمر العبارات في صفحات التعازي، بل لأن الكتابة عن الأحياء تحرجهم، وأما عن الأموات فتحرجنا نحن، كما نبه بيير بورديو. وما أكتبه اليوم، بعد أربع سنوات على الرحيل، ليس تأبينا متأخرا، بل محاولة إسعاف نقدي لما يمكن اعتباره تدنيسا للذاكرة باسم الوفاء.

في مقاله الأخير، لم يحتج توفيق بوعشرين إلى عدسة فوكو ليعري السلطة، بل احتاج فقط إلى مرآة نيتشه ليتأمل نفسه، متجليا في هيئة بطل ينهض من رماد خالد الجامعي. ولم يكتب عن خالد، بل كتب خالدا كما أراده هو، واستعمله مجرد ديكور في عرض مسرحي يتوسطه الكاتب، مزهوا ببطولاته، وباحثا عن خلود رمزي مستعجل.

فقد افتتح الأستاذ توفيق بوعشرين مقاله بسرده لموقعه ساعة موت خالد عن السجن، وكأن الوفاء يبدأ بتحديد المكان الذي كان فيه الكاتب، لا بما مثله الراحل، ومن هنا تبدأ هندسة النرجسية وهندسة النرجسية، كما يعلمنا إريك فروم هي فن تزييف العلاقة بالآخر تحت غطاء الإعجاب به.

ثم اندفع في سرد متسلسل لأطوار محنته الشخصية، متحدثا عن الغرامات والمحاكمات ومصادرات، وكأن المقال يعمل على جرد لائحة نضال تخص كاتبها وحده، والنتيجة أن خالد الجامعي لم يكن في قلب النص، بل في هامشه، ومجرد ذريعة لعرض سردية البطل المقموع.

وحين استحضر جملة لا أخاف من السجن، بل من أن أمدح من لا يستحق، فإن الكاتب لم يعد الاعتبار لخالد، بل سطا على عبارته، فحولها إلى وقود درامي لخدمة أسطورته، وهذا الأمر تماما كما وصف مارسيل موس الرأسمال الرمزي، حين يتحول القول من مجد القائل إلى مصلحة الراوي، لقد لبس صوت الجامعي كما تلبس الأقنعة في طقوس الزيف الحداثي.

الأصل أن خالد الجامعي لم يكن ظلا في مقال أحد، بل كان ذاكرة نابضة في قلب صحافة لا تعرف التزييف، فهو رجل رفض أن يتحول إلى قضية لأنه لم يكن يعرف كيف يعيش دون أن يقول الحقيقة وأما المقال الذي حرره الأستاذ بوعشرين، فجعله مجرد خلفية باهتة لصورة نرجسية تتوسطها الأنا بكل أضوائها الذاتية، ولو قرأ ماكس فيبر هذا المقال لحكم وقال بأنه قد صار الصحافي يبحث عن الخلود الرمزي لا عن الحقيقة.

ومع ذلك، لا خلود لمن يصنع تمثالا من رماد الآخرين، فالمجد لا يبنى فوق قبور الرموز، ولا تخاض معركة الاستحقاق بأشلاء الذاكرة، فـالمجد الذي يتغذى على جثث الرموز، هو مجد يشبه الدود الذي يعتلي رخام المقابر، كما قال سارتر بمرارة.

ومن يكتب عن الأستاذ خالد الجامعي لينير محنته الذاتية، كان الأحرى به أن يضمن عنوان مقاله بأنه ضحية خالد الجامعي، توفيرا على القارئ مشقة التفكيك، وحفظا لكرامة الميت من أن يتحول إلى مرآة تصقل بها صورة كاتب يحدق في ذاته أكثر مما يصغي إلى صمت الغائبين.

فإن أخطر أشكال القمع، كما نعرف من أدبيات حنة أرندت، ليست تلك التي تمارسها الدولة على الصحافي، بل تلك التي يمارسها الصحافي على رموزه، حين يحولهم إلى أدوات في آلة سردية لتلميع صورته، ذلك أن القمع الرمزي أشد مضاء من القمع السلطوي، لأنه يمارس باسم الوفاء، وبأدوات البلاغة، ومن داخل نفس الحقل الذي يدعي الدفاع عنه.

Share
  • Link copied
المقال التالي