شارك المقال
  • تم النسخ

اتفاق على الاختلاف! قراءة في بواعث ولادة الجدل

لطالما تشابهت الهوية الدقيقة لأصحاب التوجهات الفكرية المنسدلة من وعاء واحد، حتى أن اقترابها بات ملحوظاً في إنتاجها الإبداعي، وهذا ينطبق على كثير من الحقول العلمية والمعرفية، ما عدا تلك التي تتعلق الصورة النقدية للموقف الحازم في إيجاد فكرة الاختلاف من أساسها.

و إن الاختلاف في المنهج والنهج الفكري والثقافي والديني لم يكن يوماً موضع خلاف، أو تعثر في الحياة العلمية والإنتاج المعرفي، والتناغم الثقافي الإنساني الواسع، ولكن حين تشكلت صورة الأنا، وارتبطت معها العديد من “المحفزات” من مصالح وفيء وفير، فقد اتفق بعض بني البشر على استمرارية الاختلاف من دافع غير ذي نفع، وتكشف الستار عن أكبر مسرحية “مشوهة” للحضارة والعقل الإنساني من خلال الخوض في غمار تعترف جبهاتها كافة بانعدام حقها من الأساس.

ومن هذا الباب نطرح تساؤلات عميقاً يستبصر إيجاد بصيص أمل في الإجابة عليه، فإذا كان الجدل محور فائز بحوزة غزيرة من الحاجة والجهد والبذل والطاقة البشرية، فهل يمكن تبرير منبعه وأساسه؟ وهل يعتبر الوقوف في وجه “سيل الجدل” هو تحديد للحركة المعرفية والنقدية؟ وهل تكون “الراحة” ، أو تحقيق الرفاه الذهني للإنسان بتجميده؟

إنَّ “اللدد في الخصومة والقدرة عليها، ومقابلة الحجة بالحجة”، أو الجدل كما وصفها ابن منظور ، وجاء في اللغة، هو أداة خاصة بالأذكياء، للوصول لحقيقة ما أو الارتقاء بها لفسحة فكرية أوسع، الأمر الذي يبرر “فورة” ظهوره في عصر اليونان، من خلال أطروحات عقلية فلسفية “مستنهضة” بقوة للملكة الحاذقة لدى فلاسفة ذلك العصر، منتقلاً من كونه فكرة، لاعتباره منهجاً ثم أسلوب معتبر يوسع من المدارك، ويفتح آفاقاً جديدة للطرح المعرفي الرصين.

وبالتالي فإن الجدل حين كان محركاً يتغذى على النضال الفكري البشري، فإن هذا لا يكفي لاعتباره عبئاً على الكاهل البشري، سيما في ظل الفائدة المتحصلة من وراءه حينما يتعلق بالجدل من أجل المعرفة لا سواها، وبالتالي فإن الوقوف في وجه التسلسل والاستمرارية فيه يكون تقييداً للحركة المعرفية والنقدية فقط عندما يجابه أو يعترض على النقد البناء بعيد الخطى عن المصالح الفردية أو الايدولوجيات، فالرفاه الفكري البشري معوز لحركة مكوكية لا تتوقف ولكن في المسرب السليم من الطريق.

علينا الاعتراف بإن إن ما يجابل أطراف هذا العالم من موجات التحديات بتفرع المختلف “الشاذ” يمثل حركة متزايدة ومتتابعة متسارعة، مما يحسس بضرورة الحاجة، لإيجاد الحلول الناجعة، وتحقيق التفاعل الخلاق بين قيمة الاختلاف ومنبع الجدل المطلوب والنافع، وغيره من صور الجدليات المؤججة بالأيدولوجيات، وبالتالي يستطع الإنسان أن يعترف بفوزه على الاختلاف بمعنى تفرق وتنازع، وهذا ما يقدم ترياقاً محكماً لشتى تحدياته ومشاكله، وبخاصة في ظل تنوع صور الاختلاف في كل من المجتمعات البشرية المميزة عن غيرها بثقل فكري وتقليدي ثقافي، قبل أن يكون ثقلاً في تعدادها وحسب، مما يجعل المستقبل المأمول، ملزماً باستيعاب حضاري، عابر للمساحات الغنية بالتعددية العرقية، والثقافية، والجنسية، والقدرة على تجميع شمل الإنسانية من شتى المشارب والمذاهب، واستثمار التجارب الفريدة، خروجاً بتناغم متسق، ومتوازن فيما بين شقيه الإنساني الأخلاقي، والعملي السلوكي.

أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي