مرت القضية الفلسطينية بمراحل مفصلية قادتنا إلى هذا المنحدر الذي لم نشهد له سابقة.
انطلقت هذه القضية قومية/دينية تهم كل العرب والمسلمين والمسيحيين ويصنفها الجميع “قضية مركزية” أو “قضية وطنية” تحتل الأولوية وتصنف مثلها مثل القضايا الوطنية. ولذلك حارب مع الفلسطينيين فدائيون وجيوش من دول عربية مختلفة. حينها كان للعرب بعض من النخوة والمروءة تمنعهم من طعن الفلسطينيين والغدر بهم. واستعمل العرب حينها مثلا سلاح النفط في حرب عام 1973.
وطبعا، لم تخل هذه المرحلة من سماسرة تاجروا بالقضية من أجل مصالح أقطارهم، وكامب ديفيد مثال واحد وكانت نتيجتها طرد مصر من جامعة الدول العربية.
بعد ذلك دخلت القضية الفلسطينية مرحلة ثانية بدأ خلالها تنصل بعض الأنظمة العربية من مسؤولياتها القومية بمبرر أن مصلحة فلسطين وسقف نضالهم ومطالبهم يحددها الفلسطينيون ودور باقي الدول العربية هو إسنادهم ودعمهم على ضوء قرارهم الوطني المستقل.انطلقت هذه المرحلة تقريبا مع الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر عام 1988، وتعززت أكثر بعد اتفاق أوسلو عام 1993، وكان شعار المرحلة “لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين”.
ومنذ ذلك الحين بدأ العد التنازلي للتضامن الرسمي الذي صار مجرد قرارات في أوراق لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به حتى وصل الأمر إلى أن أصبحت القضية الفلسطينية شأنا فلسطينيا يراه بعض العرب عبئا عليهم وعائقا في وجه تحسين صورتهم ومواقعهم.طيلة هذه المرحلة، شهدت الساحة الفلسطينية تحولات نوعية على مستويات عدة، سواء من حيث فصائلُ المقاومة ووجودُها الميداني ومساهمة الشعب الفلسطيني بإمكانياته الذاتية في الإبقاء على قضية فلسطين في صلب الصراع العربي الإسرائيلي وشاهدة على أقدم استعمار وأقذر عملية نصب واغتصاب لحقوق شعب بكامله.
وكلنا يتذكر انتفاضات الشعب الفلسطيني وتضحيات كل فئاته.
ولذلك لم يكن يجرؤ نظام عربي على الحلول محل الفلسطينيين رغم وجود سماسرة في هذه القضية دائما.خلال الآونة الأخيرة، بدأنا نلاحظ أن التعاطي مع القضية الفلسطينية انتقل إلى مرحلة ثالثة أخطر، وهي اتخاذ بعض الأنظمة هذه القضية ذريعة لتحسين وضعيتها وتقوية موقعها وتأمين أمنها دون تشاور مع المعنيين مباشرة بالملف، أي الفلسطينيين. وفي هذا الإطار يندرج الاتفاق الإماراتي البحريني الإسرائيلي الأخير.
كيف لدولة أن توقع اتفاقا حول قضية لا علاقة لها بها؟ وكيف تسمي الاتفاق سلاما وهي غير ذات حدود مع الطرف الآخر؟ وكيف يسمى اتفاقية سلام ولم تكن حرب من قبل؟ وكيف تجرؤ على التذرع بمصلحة الفلسطينيين كسبب لتوقيعها هذا الاتفاق والمعنيون الفلسطينيون بكل مكوناتهم يصرحون أن لا تفويض للإمارات والبحرين للحديث نيابة عنهم؟ أليس في الأمر تمويه على الرأي العام وعدم تسمية الأمور بمسمياتها؟/
إن ما حدث ليس اتفاقية سلام ولكنه تحالف إقليمي جديد يراد له التشكل لمواجهة تكتلات أخرى ينظر إليها كمهدد لمصالح وأمن هذه الدول، والمقصود طبعا الخوف من التمدد الإيراني والتركي في المنطقة.تتخوف هذه الدول الخليجية من الزعامة التركية للعالم السني، كما تتخوف من “الخطر الإيراني” الذي تراه مهددا لأمنها.تريد هذه الدول الاستقواء بالصهاينة والاستفادة من صفقات تسلح تحقق بها التفوق العسكري في المنطقة، ولكنها سرعان ما ستستفيق على حقيقة أنها تتشبث بسراب.
لقد انتقلنا إلى مرحلة ثالثة شعارها أن قضية فلسطين لم تعد شأنا فلسطينيا ولم يعد من صلاحية الفلسطينيين التفكير في مصلحتهم لأن هناك من يفكر ويخطط وينفذ باسمهم.ما يحدث هذه الأيام تزييف للتاريخ ونصب رسمي يرقى إلى الجريمة حين يقدم الاتفاق بعنوان “اتفاق سلام” بين دول لم تعش حروبا بينها.هل لاحظتم حجم المؤامرة على فلسطين وعلى الفلسطينيين؟ يراد لهذا الشعب أن يكون قاصرا ويحقق غيره مصالحهم على حسابه.
لم يعد أمام الفلسطينيين غير جبهتهم الداخلية وهي نقطة قوتهم. أولوية الأولويات فلسطينيا هي وحدة الصف الفلسطيني ولن يتأتى ذلك بدون حوار فلسطيني تكون أولويته إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة وإدماج فصائل جديدة في تركيبتها.ومن الأولويات كذلك، إعطاء الأولوية لخيار المقاومة لأن التجارب أثبتت أن الصهاينة لا يستجيبون لمطالب الفلسطينيين إلا تحت الضغط.لا بد من استمرار الرهان على الشعوب العربية وليس النظم وعلى أحرار البشرية الذين يتعاطفون مع فلسطين ويناصرون هذه القضية العادلة التي يتعرض فيها هذا الشعب لأبارتهايد حقيقي.ينبغي سحب البساط من الأنظمة والجامعة العربية بنزع أي تفويض لها للحديث نيابة عن الفلسطينيين.
إن فلسطين ليست سلاما مقابل الأرض أو سلاما مقابل سلام. فلسطين قضية شعب شرد وحضارة طمست وتاريخ زيف ومقدسات تعرضت لاغتصاب.
لا يمكن حل القضية بدون عودة اللاجئين وهو ما تسارع بعض النظم الزمن لطيه بمقترحات خبيثة. ولا يمكن حلها بغض الطرف عن الأراضي المغتصبة عام 1948.
باختصار قضية فلسطين صراع وجود لا صراع حدود. ستبقى هذه الخلاصة ثابتة تتلقاها الأجيال حتى تتحرر فلسطين كلها. وأول عقبة أمام تحريرها هي هذه النظم التي تتاجر بفلسطين والفلسطينيين. قضية فلسطين هي قضية أحرار العالم ولن يصمد أمام الغطرسة الصهيونية والعربدة الأمريكية والاستبداد العربي إلا الأحرار.
ستكتشف هذه الأنظمة التي تسارع إلى التطبيع الشامل مع الصهاينة حماية لأمنها من “الخطر الشيعي الإيراني” أو “الخطر التركي العثماني” أنها أخطأت الوسيلة والهدف والتحليل. وانشغلت بتهديد ظرفي متجاهلة تهديدا استراتيجيا، وكان يمكن إيجاد حلول أفضل.لا يمكن لأمريكا الترامبية الدفاع عن العرب وترامب وفريقُه لعبة في يد الصهاينة يراهن على دعم لوبياتهم في الانتخابات القادمة بتقديم مثل هذه الهدايا لنتنياهو وتياره المتطرف.
وهذه مناسبة للتذكير أن هذه الاتفاقيات ليست ضمانة لإعادة انتخابه وسابقةُ جيمي كارتر شاهد، ففي عهده وقعت اتفاقية كامب ديفيد ولكن لم يجدد له لولاية ثانية عكس كلينتون الذي وقعت في عهده اتفاقية أوسلو ووادي عربة. هذه الاتفاقيات ليست وحدها من سيحدد اتجاهات الناخب الأمريكي.بدأ التطبيع الشامل والعلني مع مصر والتحقت بالركب منظمة التحرير الفلسطينية ثم الأردن، وها نحن اليوم نعيش بوتيرة متسارعة التحاق الإمارات والبحرين، ولن نتفاجأ إن التحق آخرون. أما التطبيع الجزئي والخفي فلا تكاد تستثنى منه دولة. وكم نحتاج إلى شجاعة سياسية من قبل هاته الأنظمة بإقامة استفتاء شعبي لمعرفة اتجاه الرأي العام واحترامه والامتثال لإرادته حتى تحوز هذه الأنظمة شرعية ديمقراطية، أو بعضا من هذه الشرعية.
تعليقات الزوار ( 0 )