ما من شك أن تتبع المواطن العربي للانتخابات الأمريكية يفترق بشكل كبير عن أي متابع آخر، فإذا كان المواطن الأمريكي، يهتم بملاحظة التحديات التي تواجه النموذج الديمقراطي الأمريكي، من جراء حدة الانقسام المجتمعي الذي أحدثته الظاهرة الترامبية، كما يهتم المواطن الأوروبي، بالأثر الذي يمكن أن يحدثه فوز بايدن في إعادة رسم العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا، أو حتى إعادة رسم علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، فإن انشغالات العالم العربي مختلفة تماما. إذا كان اهتمام المواطن الأمريكي والأوروبي بهذا الشكل، فإن زاوية اهتمام المواطن العربي، تأخذ ثلاثة أبعاد أساسية، أولها، مستقبل الديمقراطية في المنطقة العربية، وهل سيبرز هذا العنوان ويؤطر جزءا مهما من السياسة الدولية، أم سيبقى عنوان دعم الأنظمة الاستبدادية مستمرا ومبررا باسم تأمين المصالح الأمريكية. وثانيها، هو بؤرة الصراع التي ستؤطر السياسة الأمريكية في المنطقة، وهل، ستستمر في سياسة محاصرة إيران واعتبارها مهددا أساسيا لمنظومة الأمن الخليجي والشرق الأوسطي، أم ستتجه إلى تركيا لتقليص نفوذها الإقليمي في المنطقة. وأما الثالث، فيتعلق بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، وما إذا كانت سياسة بايدن، ستستأنف «مكتسبات» ترامب في ضغطه على بعض الدول العربية لإجبارها على تطبيع علاقتها مع الكيان الصهيوني.
تبدو هذه العناوين الثلاثة مختلفة، أو يأخذ كل واحد منها مساره الخاص، لكن، هي كذلك بالبراديغم الجمهوري، الذي يؤطر كل قضية بسياسة، ويحاول أن ينسق بين السياسات الثلاث، على نحو لا يربك مخرجاتها جميعا أو على نحو تضطر فيه السياسة الأمريكية للخضوع إلى الأمر الواقع في التعامل مع «عدوها» فدعم الأنظمة الاستبدادية، يتطلب محاصرة إيران وتقليص تمددها الإقليمي، كما يقتضي أيضا الدخول في جبهة الصراع مع تركيا، لكونها تقف في الجانب المقابل لهذه الأنظمة الاستبدادية، لكن واقع السياسة الأمريكية بالبراديغم الجمهوري، كما صاغه ترامب، لم تسر تماما على هذه المعادلة، فقد اضطرت إلى الدخول في لعبة حذرة مع تركيا، في أكثر من بؤرة صراع (سوريا، العراق، ناغورني كاراباخ، شرق المتوسط) انتهت مخرجاتها في نهاية المطاف إلى تقوية تركيا وتمددها الإقليمي.
بالبراديغم الديمقراطي، الأمر يختلف، فثمة دائما حرص على أن تكون السياسة الخارجية الأمريكية، منتظمة ضمن نسق واحد، مع ترتيب لبؤر الصراع، وما ينبغي البدء فيه، وما ينبغي تأخيره، أو ضبط مستوى الصراع فيه إلى المستويات الدنيا.
فعلى المستوى الأول، أي قضية الدمقرطة، سيعاني الديمقراطيون، كما عانوا من قبل، من معضلة مآل الدمقرطة في العالم العربي، وأي التيارات يمكن أن تكون المستفيدة من ذلك، وهل تستطيع السياسة الأمريكية أن تذهب إلى أبعد مدى في الضغط على الأنظمة الاستبدادية، لاسيما السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وما الضمانات التي يمكن التفكير فيها حتى لا يكون الرابح الأكبر من ذلك هي الحركات الإسلامية، وهل سيكون ممكنا أن تفكر الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الخيار دون ان تستحضر ذاكرة الربيع العربي بكل إشكالاتها ومخضاتها؟
أما على المستوى الثاني، فواضح أن تجربة الديمقراطيين، تعطي تصورا واضحا عن الموقف المحتمل من إيران، وأنه من الممكن جدا، أن يتجدد الطلب على اتفاق نووي جديد، أو ربما أكبر من ذلك، بالتفكير في إعادة رسم العلاقة مع إيران، على النحو الذي تبقى فيه دول الخليج تحت الضغط والابتزاز الأمريكي، وتتفكك جزئيا الاستراتيجية التركية، التي كانت المستفيد الأكبر من الحصار على إيران.
على هذا المستوى أيضا، لا يبدو تقييم الديمقراطيين للسياسة الأمريكية تجاه تركيا مقنعا، وما أبداه بايدن في تصريحاته من نبرة مناهضة لتركيا، تعطي صورة عن عدم كفاية الرهان على سياسة الإضعاف الاقتصادي والمالي والنقدي لتركيا، وأن هناك طموحا أكبر من ذلك، يتوجه إلى تقليص نفوذها الإقليمي على الأرض.
أما على المستوى الثالث، فلا يبدو أن بايدن، سيتجه إلى القطيعة مع سياسة ترامب، فما يحكم العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، هو فوق المماحكات السياسية بين الغريمين الجمهوري والديمقراطي، وأنه حين يتعلق الأمر، بالمصالح الإسرائيلية، وتأمينها، تتضاءل هذه الخلافات لأبعد حد. لكن مع ذلك، يشعر الديمقراطيون أن ما أنجزه ترامب تحت الضغط والابتزاز، كان محدودا، وغير مضمون، وبعضه أشبه بالإعلان السياسي الذي قدم هدية لترامب بين يدي حملته الانتخابية، ولا يتصور أن يكون له مدى أبعد من ذلك، كما هو الحال في تطبيع السودان، فعين الديمقراطيين على العمق العربي، وعلى المحور الذي يشكله، وليس على الأطراف أو الدول الهشة، فأي عملية سلام في تصور الديمقراطيين، لا توجد بها مصر، والأردن، والسعودية، والمغرب، والسلطة الفلسطينية، تبقى من غير مضمون سياسي.
ثمة تحديات كبيرة تطرح أمام السياسة الأمريكية في ظل إدارة بايدن، أولها، ألا تستطيع أن تمضي بعيدا في الصراع مع تركيا، لاسيما وأنها دخلت منذ مدة في سياسة «انسحابية» من المنطقة، زكتها وعمقتها بروز قوى إقليمية ودولية متصارعة في أكثر من بؤرة توتر، لم يتم حسم مآلها إلى اليوم، فأمريكا، لا يمكن لها أن تفعل الكثير في سوريا، لأن أي خيار لتغيير تحالفاتها الإقليمية، سينتج عنه مواجهة نفس التكتيك من قبل قوى دولية وإقليمية أخرى، وربما ستضطر للخسارة إن هي اتجهت بعيدا عن تحالفاتها التقليدية.
التحدي الثاني، أنه لا يمكن المضي في سياسة الضغط على الأنظمة الاستبدادية، وفي الوقت ذاته، مواجهة تركيا، فبؤرة توتر هذه الأنظمة داخليا هي الحركات الإصلاحية الديمقراطية، وبؤرة توترها الخارجي هي تركيا، فكيف ستنسج السياسة الأمريكية مفرداتها بالرقص على الحبلين، لاسيما وأن أي توجه لتسوية الصراع مع إيران، سيخلق حساسية خليجية مضاعفة، يمكن أن تتجه بها إلى إذابة كرات ثلج كثيرة بينها وبين تركيا.
التحدي الثالث، هو أن أمريكا، لا تملك أي حلفاء يتمتعون بمصداقية مجتمعية يمكن أن تستند إليهم لنسج سياسة منسجمة تنسق الخطوط الثلاثة، فلو كانت التيارات الليبرالية أو اليسارية تتمتع بقاعدة شعبية عريضة داخل المجتمعات العربية، لأمكن الرهان على تحول سياسي في العالم العربي، تقوده هذه التيارات، فتضغط على الأنظمة السياسية، ويتحقق مع ذلك خوض جبهة الصراع مع تركيا، لكن في غياب ذلك، لن يكون بإمكان السياسة الأمريكية في علاقتها بتركيا، إلا أن تتجه نفس المتجه القديم، أي الحفاظ على حليفها التقليدي، وفي الوقت ذاته، إضعافه بالرهان على تقوية التهديد الذي يشكله حزب العمال الكردستاني، واستعمال الورقة الديمقراطية والحقوقية، كآلية للضغط على الأنظمة الاستبدادية، لدفعها نحو تأمين مزيد من المصالح الأمريكية، وتقديم تنازلات إضافية لتحقيق «تقدم» في تسوية جبهة الصراع العربي الإسرائيلي.
ما عدا ذلك، فالقدر الذي يمكن أن تستفيد منه القوى الإصلاحية والديمقراطية، لن يتعدى البعد التكتيكي، أي تحقيق انفراجات حقوقية واستثمار الضغط الأمريكي لتوسيع بعض الهوامش، إلا أن تغير استراتيجيتها بالكامل، لجهة بناء تحالفات سياسية قوية، بخفض مستوى التطلع القيادي، والرجوع إلى قاعدة الدعم والإسناد، ريثما يتم التخلص من شبح الاستبداد الشمولي.
تعليقات الزوار ( 0 )