شارك المقال
  • تم النسخ

أوريد يكتب : العودة إلى زمن الحدود

قبل بضع سنوات، أصدر الكاتب والفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري كتيبا صغيرا لم يحظ بالاهتمام حينها بعنوان «في مناقب الحدود» (أو الإشادة بالحدود). كان في الأصل محاضرة ألقاها في اليابان عن ضرورة إرساء الحدود بين العوالم السياسية والثقافية، من أجل تفاعل حقيقي، على خلاف ما كان ساريا من ضرورة إزاحة الحدود.

لم يكن ريجيس دوبري ليلقي محاضرته في فرنسا، أمام الموجة العارمة بها كما في أوروبا ضد الحدود والانغمار في العولمة، وفي مفهوم مُواطن العالم. اختار الفيلسوف الفرنسي أن يناهض الاتجاه العام، ببلده كما في العالم، في بلد له حدود معلومة، أو ليست له حدود مع العالم وهو اليابان.

كانت حجة أصحاب إزاحة الحدود، أن ذلك يندرج في مسلسل التاريخ، بعد سقوط حائط برلين وتواري الأيديولوجية الشيوعية، ومزايا العولمة، ثم لماضي أوروبا القريب الذي اقترنت فيه القوميات والصراع على الحدود بالحروب. أصبح كل ما يرتبط «بلا حدود»، أيديولوجية وعنوان الانغمار في روح العصر، من قبيل «أطباء بلا حدود،» و»صحافيون بلا حدود»، ولم يبق إلا أن ينتصب رجال الجمارك، كي يعلنوا هم أيضا عن تنظيم يحمل شعار «جمركيون بلا حدود»، وهو الأمر الذي لا معنى له.

نحتاج إلى حدود مادية ومعنوية يمكن بداخلها أن نفكر ونشعر ونحلم ونتذكر لا فضاء شاسعا.

كان الفيلسوف الفرنسي يغرد خارج السرب، في وقت علا فيه لغط إزاحة الحدود. المشكل من منظور دوبري، ليس في وجود الحدود، بل في ضمورها. انتفاء الحدود ما بين الشؤون العامة والمصالح الخاصة، بين المواطن والفرد، بين «نحن» وأنا، بين الكائن والظاهر، بين البنك والكازينو، بين الإخبار والإشهار، بين الفكر والمعتقد، بين المدرسة والمصلحة، بين الدولة واللوبيات، بين تضارب المصالح والعلاقات الخطرة (وهي تورية تحيل إلى رواية دوككلو حول العلاقات الجنسية) بين مكتب السياسي وغرفة نومه. وهل يستقيم العالم العصري أو الديمقراطية من دون وضع حد لتداخل الأشياء، أو فصل بين السلطات وفرز بين المهام؟

يقر ريجيس دوبري، بأن عالما من غير حدود يعطي للغني أجنحة، كي يطير حيث يشاء، إذ ما يحدد هويته هو حسابه البنكي، وليس ذاكرة أو وجدانا. يشعر بأنه وسط ذويه حيثما حل وارتحل في المنظومة ذاتها، ممن يأتمّون بعقيدة العولمة، على خلاف الفقير الذي لا يتحرك إلا حيث يستطيع، إن تحرك، وقد يضطر إلى الجدف، والأمر ليس مجازا، بالإحالة لمن يركبون البحر. ليس للفقير حضن يأوي إليه إلا ذلك الذي تحده حدود معلومة، من لغة، وعقيدة، وذاكرة، ووطن. الشريحة الأولى عبارة عن جوارح ضارية تكره الحواجز، لأنها تمنعها من الطرائد، والطريدة تهفو إلى الحواجز لأنها ما يحميها.

هل العالم من دون حواجز أو حدود، ترياق؟ كلا، يقول ريجيس دوبري، لأن الاحتكاك في داخل عالم بلا حدود، يؤدي إلى الانكماش الهوياتي، أو ما يسميه بأمراض جلد الحضارات. يمكن أن تتفاعل وهي في حدود مرسومة، إما إذا أزيحت الحواجز في فضاء بلا حدود ولا معالم، أفضى الأمر إلى التهاب الجلد، ثقافيا، وشتى أشكال الأمراض الناتجة عن الاحتكاك. يستشهد بالمؤرخ الفرنسي بروديل في كتابه عن القواعد الناظمة للحضارات، وهي نزوع كل الحضارات إلى رفض كل نتاج ثقافي من شأنه أن يعيد النظر في بنياتها (مقوماتها) العميقة. الحجة البالغة لأصحاب إزاحة الحدود هو الفعالية والخضوع لملكوت الاقتصاد، والنزوع التقني، لكن الجانب الخفي، يرد دوبري، هو السلطة المطلقة، التي تؤول لمن يملكون المال، وإمبريالية خارج منطق الجغرافية، كما توسيع الحلف الأطلسي ليضم أوروبا الشرقية (حيث لا محيط أطلسي)، أو إغراء تنميط حضارات وثقافات أصيلة، مع ما يترتب عن ذلك، وهو بيت القصيد، من قلب الموازين أو سُلم القيم، إذ «القيمة الأولى للحد، هو وضع حد للقيم». يدحض دوبري حجة أصحاب هدم الحدود، بأنهم دعاة سلام، والحال يقول دوبري، مستشهدا بالفيلسوف الإسرائيلي أوري أفنيري، «ما هو جوهر السلام؟ الحدود. حينما يبرم شعبان السلام بينهما، يُرسّمان الحدود». وخطورة الصهيونية هي أنها لا ترسم حدودا مادية، إذ كما قالت غولدا مائير، فحدود الدولة اليهودية هي حيث يوجد يهود، وليس حيث يوجد خط على الخريطة، وهي وصفة يقول دوبري تقود لحروب مئة سنة. لا ينصح دوبري بالانغلاق، لأن الحدود، كما الدواء، يمكن أن تصبح سما، وأن السر، أو العلاج، يكمن في المقادير، ذلك أن «حدودا معترف بها هي أحسن لقاح ضد وباء الجدران».

عدنا، أو دفعنا للعودة لزمن الحدود، في زمن كورونا، إلى حضن يحمي، من لغة وثقافة وتاريخ ودولة. لا يجدي أن يتنكر المرء لذاته، بل يمكن أن يعطي أحسن ما لديه إن قبل بذاته وتحمل مسؤولية ذاته. تكتشف أوروبا أن حدودا تتخللها، ونكتشف أن هناك حدودا ينبغي عدم القفز عليها، حماية لأنفسنا ولغيرنا. لا نستطيع أن نفكر إلا في داخل حدود معلومة. حدود ثقافية وحضارية. ولا غرو أن يكون الفكر قد غاض من ساحتنا وسط مجرى الهواء الذي أصاب عقولنا وأفضى بها إلى الالتهاب. لعل أن يفضي العالم الجديد إلى دفء يتيح أن نفكر بعيدا عن مجرى الهواء، والتنميط الخادع. والعيب في السياسة كما في الفكر، هو أن يكون المرء مصيبا قبل الأوان، وعيب دوبري في كتيبه أنه رأى ما لم يكن يُرى، وما أضحى واضحا للعيان في زمن كورونا. نعم نحتاج إلى حدود مادية ومعنوية يمكن بداخلها أن نفكر ونشعر ونحلم ونتذكر، لا فضاء شاسعا لا يترك لنا من خيار سوى أن نستهلك بضائع وتصورات مع اللعبة الخادعة للصور، وما يستتبع من قلب سُلم القيم، أو حين يستنسر البُغاث، كما يقول المثل، أي حينما يحاكي البغاث، وهو الطائر الصغير، النسور، ويحسب نفسه نسرا.

*كاتب ودكتور في العلوم السياسية

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي