تلخّص سلسلة من الصور مسار العلاقات بين تركيا ومصر، وأولاها صورة المصافحة بين الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي على هامش المونديال في الدوحة بحضور الشيخ تميم في تشرين الثاني المنصرم، ثمّ صورة العناق بين وزيرَي خارجية تركيا مولود شاووش أوغلو ونظيره المصري سامح شكري خلال زيارته التضامنية مع أنقرة بعد كارثة الزلزال في شباط المنصرم، ثمّ الصورة الثالثة التي جاءت من “قصر التحرير” خلال زيارة الإعادة التي قام بها شاووش أوغلو لـ”أخيه” سامح شكري في السابع عشر من آذار الحالي، وكانت بمنزلة تلخيص للمسار الجديد في العلاقات بين البلدين والمرحلة التي وصلت إليها.
الصورة الرابعة التي سننتظرها ستكون حول مائدة إفطار تنظّم لوزير الخارجية المصري في أنقرة خلال شهر رمضان كما يبدو من تصريحات الوزير شاووش أوغلو الذي كشف النقاب بعد عودته من القاهرة عن دعوة وجّهها لنظيره شكري بهذا الخصوص. هل يستقبل إردوغان سامح شكري الذي اكتفى بجولة تفقّدية لساعات في مناطق الزلزال وغادر من مطار أضنه من دون أن يعرّج على أنقرة، وبذلك نكون قد التقطنا الصورة الخامسة على خط الحوار التركي المصري الجديد.
الصورة السادسة المنتظرة التي ستكون الأهمّ هي عناق الرئيسين أمام مدخل القصر الرئاسي المصري بعد الانتخابات التركية، لكن لا نعرف بعد من الذي سيكون هناك إلى جانب الرئيس السيسي، إردوغان أم زعيم المعارضة كمال كيليشدار أوغلو؟
القاهرة والإخوان
لا يجوز هنا طبعاً تجاهل الصورة التي التُقطت لوزير الخارجية التركي أمام لوحة رؤساء مصر وهو يتفقّد متحف الخارجية المصرية. فهل تحرِّر زيارة “قصر التحرير” في القاهرة والفيديو الذي نشره المتحدّث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد على صفحته لمشهد اصطحاب الوزير شكري نظيره التركي في جولة في أقسام مبنى وزارة الخارجية ومتحفها، حيث وقف الاثنان أمام لوحة كبيرة تحمل صور رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على هذا المنصب حتى الآن، وقد غاب عنها محمد مرسي. هل تحرّر هذه الصورة مسار العلاقات ويكتفي الجانب المصري بهذه الخطوة لتكون انطلاقة جديدة على طريق المصالحة والتطبيع؟
لا نعرف تماماً بعد عدد الذين شاهدوا الفيديو في تركيا، لكنّ الذي نعرفه هو أنّه لن يكون له أيّ ردة فعل سياسية وإعلامية ما دام شاووش أوغلو جاء لبحث سبل فتح صفحة جديدة من العلاقات وترك مراحل “الاستكشاف” و”الاستشفاف”. فهل القاهرة جاهزة للإعلان أنّ ملف “الإخوان” قد أُغلق حتى لو كان هناك بعض التفاصيل والتفرّعات الجانبية؟
إردوغان أيضاً لن يسأل وزير خارجيته عن الشقّ الاجتماعي وانطباعاته حول وجوده للمرّة الأولى في القاهرة والزيارة التي يقوم بها كوزير للخارجية التركية منذ 11 عاماً. هو يريد أن يعرف أكثر النتائج السياسية والاقتصادية والأمنية للمحادثات وربّما نتائج التفاهمات التي اتفق عليها في الجلسات الثنائية وعلى مستوى الوفدين التي غاب عنها تنظيم لقاء لشاووش أوغلو مع الرئيس المصري لم يحِن وقته بعد كما يبدو.
لم يعد هناك رغبة بالعودة كثيراً إلى أرشيف عقد كامل من التوتّر والتأزّم التركي المصري. وما كان يردّده المتحدّث باسم الخارجية المصرية المستشار أحمد أبو زيد في شباط 2018 وهو يعقّب على تصريحات وزير الخارجية التركي بشأن عدم اعتراف تركيا بالاتفاق المبرم بين مصر وقبرص اليونانية عام 2013 حول ترسيم الحدود البحرية ويحذّر من أيّ محاولة للمساس أو الانتقاص من حقوق مصر السيادية في تلك المنطقة ويعلن أنّها مرفوضة وسيتمّ التصدّي لها، حلّ مكانه اليوم احتمال دخول مصري على خط الوساطة بين أنقرة وأثينا عند اللزوم.
منتدى المتوسط للطاقة
تماشت الخارطة التي أرفقتها مصر عام 2021 بمناقصة التنقيب عن الهيدروكربونات في عدد من الكتل البحرية في شرق المتوسط، مع الحدود الجنوبية للجرف القاري التركي المشار إليه في الاتفاق التركي – الليبي قبل 5 سنوات، ممّا دفع بالوزير شاووش أوغلو إلى القول إنّ بحث مصر عن الطاقة يحترم حدود المنطقة الخالصة لتركيا وفقاً لمسار علاقاتنا، وإنّه يمكننا التوقيع على اتفاق مع مصر من خلال التفاوض على المساحات البحرية. قد يكون العرض المصري باتجاه فتح الأبواب أمام عضوية تركيا في منتدى غاز شرق المتوسط الذي تشكَّل في كانون الثاني 2019 والذي تحوّل إلى فرصة لأثينا ونيقوسيا للاستفادة من التنسيق مع مصر وإسرائيل في وقت واحد، إلى جانب الدعم الفرنسي والإيطالي.
هناك أكثر من دولة تحتاج اليوم إلى غاز شرق المتوسط كبديل للغاز الروسي، وخصوصاً في أوروبا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وهناك فرصة استراتيجية مهمّة للدول المشارِكة في منتدى شرق المتوسط لبيع غازها إثر تعثّر مشروع “إيست ميد” الذي تراجعت واشنطن عن دعمه.
لعبة المعادلات والتوازنات حسّاسة ودقيقة في هذه البقعة الجغرافية، ولكلّ طرف حساباته ومصالحه الواجب أخذها بعين الاعتبار. والمثال على ذلك أنّه ما إن أبدى وزير الخارجية التركي المزيد من التفاؤل وهو يكشف عن معلومات جديدة تتعلّق بنتائج محادثاته في القاهرة حتى تحرّك المتحدّث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للفت نظر تركيا إلى أنّ جهود بوتين لتحويل الأراضي التركية إلى مركز عالمي للطاقة ما زالت قائمة حتى لو كان هناك بعض التأخير والعقبات الفنّية.
ومن بين هذه المعلومات التي كشف عنها الوزير التركي:
– تركيز الجانبين على أهمية التنسيق المشترك في ملفات ثنائية وإقليمية تتعلّق بحماية مصالحهما ومصالح دول المنطقة في الوقت نفسه.
– التوقّف عند أهمية التعاون في حلحلة ملف الأزمة الليبية بكلّ تفاصيلها.
– عرض نقل الغاز المصري إلى أوروبا، بعدما أصبحت تركيا جسراً لنقل هذه المادّة إلى دول أوروبا الشرقية والبلقان.
– استعداد أنقرة في ضوء تجاربها في قضايا المياه للعب دور الوساطة بين مصر وإثيوبيا إذا ما طُلب منها ذلك.
– التذكير باقتراح إردوغان حول تنظيم مؤتمر لدول شرق المتوسط يتعلّق بملفّات الطاقة برعاية الاتحاد الأوروبي.
مرحلة برودة الأعصاب
ما قد يقلق البعض أكثر هو احتمال أن يقود تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة إلى أن يتوسّط الجانب المصري بين تركيا واليونان من جهة، وبين تركيا وقبرص اليونانية من جهة أخرى، في إطار حلحلة ملف الأزمة القبرصية التي قد تتضمّن حلّاً شاملاً، بفضل ما للقاهرة من علاقات طيّبة مع الطرفين. هل نرى بعد الانتخابات التركية تحرّكاً مصرياً على هذا الخط يقطع الطريق على “جهود العرقلة” الأوروبية التي كانت دائماً تأخذ مصالحها بعين الاعتبار في حوض شرقي المتوسط؟
ما تنتظره القاهرة الآن من الجانب التركي هو إنجاز مراجعة السياسات واستكمال خطوات إعادة التموضع الإقليمي والمصالحة مع اللاعبين المؤثّرين في المنطقة كي يكون المكسب للجميع من هذه الموارد الضخمة، كما تردّد مصر.
يوجز وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو الخطوط العامة الجديدة لسياسة بلاده الإقليمية بقوله إنّ هذا الزمن هو زمن تطوير العلاقات في إطار المصالح المشتركة، وإنّ برودة الأعصاب التي يتمّ من خلالها حلّ المشاكل هي التي ستؤدّي إلى تعزيز التقارب والانفتاح. من ناحيتها وصفت الخارجية المصرية زيارة شاووش أوغلو للقاهرة بأنّها بمنزلة تدشين لمسار استعادة العلاقات الطبيعية، وإطلاق حوار معمّق حول مختلف جوانب الملفات الثنائية والقضايا الإقليمية والدولية محلّ الاهتمام المشترك. هناك من يرى في القاهرة أنّ عودة العلاقات بين البلدين باتت مسألة وقت وتأتي في سياق توجّه إقليمي شامل نحو تهدئة التوتّرات وحلحلة الملفّات العالقة. ما يقوله الوزير سامح شكري حول التغيير الحقيقي في سياسة تركيا الإقليمية الذي سيتحوّل إلى أرضية مؤهّلة لاستعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين سيتمّ التعامل معه بجدّية ودقّة في أنقرة هذه المرّة كما يبدو.
قناعة اليوم في أنقرة والقاهرة هي أنّ كلا الطرفين أبديا إرادة سياسية جديّة ستفتح الأبواب أمام توافقات ثنائية وإقليمية ستنعكس إيجاباً على ملفات سياسية واقتصادية وأمنية معقّدة في المنطقة، وأنّ عامل الوقت وبرمجة اللقاءات مرتبطان بما بعد خروج تركيا من أجواء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرّرة في منتصف أيار المقبل.
تعليقات الزوار ( 0 )