تنفس الشاب المغربي مهدي مخلص (23 سنة) الصعداء بمجرد ما وطئت أقدامه مطار الدار البيضاء قادما من العاصمة الرومانية (بوخارست)، وعاد مخلص إلى بلاده في أولى رحلات إجلاء المواطنين المغاربة المقيمين بأوكرانيا بعد عبورهم الحدود في اتجاه الدول المجاورة.
ومنذ يوم الأربعاء حتى أول أمس الجمعة، وصل 1280 مغربيا مقيما بأوكرانيا إلى مطار الدار البيضاء عبر 8 رحلات جوية قادمة من وارسو وبوخارست، كما غادر نحو 6600 مغربي أوكرانيا عبر مختلف المنافذ، حسب ما نقلت وسائل إعلام مغربية عن مصادر دبلوماسية وصفتها بالموثوقة.
ويبلغ عدد المغاربة في أوكرانيا نحو 12 ألفا، منهم 8800 طالب، حسب وزارة الخارجية المغربية حتى نهاية العام الماضي. ويأتي الطلبة المغاربة في المركز الثاني في ترتيب الجنسيات الأجنبية الوافدة على هذا البلد الأوروبي للدراسة بعد الطلاب من الهند.
خوف من المجهول
غادر طالب الصيدلة مهدي مخلص مدينة دينيبرو، ثالث أكبر مدن أوكرانيا، ليلة السبت مع 7 من مواطني بلده على متن القطار في اتجاه أوديسا، ومنها ركبوا الحافلة نحو الحدود مع رومانيا.
ويحكي مهدي للجزيرة نت أن الرحلة كانت طويلة بسبب الازدحام في محطات القطار والحدود وبسبب الخوف من المجهول. ورغم أن المدينة بعيدة عن المعارك ولم تكن قد تعرضت بعد للقصف الروسي عندما غادرها مهدي مع رفاقه، فإن الأجانب والعديد من الأوكرانيين قرروا البحث عن مكان آمن قبل أن تسوء الأوضاع.
يقول “قضينا 5 ساعات في الانتظار قبل الدخول إلى رومانيا، لكن بعض الأصدقاء قضوا يومين إلى 3 أيام في البرد والعراء بسبب الاكتظاظ في بعض المراكز الحدودية، كنا محظوظين لأن المركز الذي دخلنا منه كان أقل ازدحاما من غيره”.
يضيف “عندما دخلنا الجانب الروماني من الحدود قدموا لنا الطعام واللباس والخيام، كما وجدنا ممثلين عن السفارة المغربية”.
ورغم إحساسه بالأمان بمجرد وصوله إلى بلاده، ما تزال العديد من الأسئلة معلقة في عقل المهدي مخلص المنحدر من مدينة تازة المغربية.
فبعد أن غادر على عجل المدينة التي درس فيها الصيدلة على مدار عامين، يبدو له المستقبل الدراسي غامضا، ولا يدري إن كان سيعود مرة أخرى إلى أوكرانيا لاستكمال تعليمه.
عذاب النجاة من القصف
وجد مئات الطلبة المغاربة، بخاصة في خاركيف وكييف، أنفسهم محاصرين وسط أصوات الصواريخ والرصاص غداة انطلاق الهجوم الروسي على أوكرانيا، وهو وضع لم يألفوه في حياتهم، جعلهم يعيشون هم وعائلاتهم أياما من الفزع والرعب.
وتروي طالبة الطب أميمة مستاري قصة خروجها من العاصمة كييف في اليوم الثاني للحرب بعد مغامرة محفوفة بالمخاطر.
وتحكي للجزيرة نت أنها نامت ليلة الخميس من الأسبوع الماضي بعد ساعات قضتها في الدراسة استعدادا لامتحان في اليوم التالي، لتستيقظ على أصوات الانفجارات والقصف.
وتقول “استيقظت فزعة، لم أعرف ماذا حدث، كانت الشقة تهتز والأصوات قوية ومرعبة”. وتدرس أميمة الطب في سنتها السادسة، وحسب قولها، فإن الجامعة رفضت السماح للطلاب الأجانب بمغادرة البلاد والدراسة عن بعد بدعوى أن الأمور مستقرة وخيار الحرب مستبعد.
رعب اليوم الأول
قضت أميمة اليوم الأول من الحرب في رعب، شاهدت لأول مرة في حياتها الصواريخ وسمعت أصوات القنابل، وهي مشاهد كما تحكي لم تكن تراها إلا في الأفلام وشاشات الأخبار.
في اليوم الثاني، قررت مغادرة كييف، فحملت حقيبة ظهر وضعت داخلها وثائقها الشخصية وحاسوبها والمال وبعض الطعام والماء. تقول “تركت كل شيء خلفي، ملابسي وكتبي وكل أشيائي، خرجت بالملابس التي أرتديها فقط، نجوت بنفسي”.
اجتمعت أميمة مع أصدقاء عرب في محطة القطار وأخذوا حافلة من كييف باتجاه مدينة لفيف. وتوضح “كان الطريق متعبا وطويلا، في الأيام العادية كنا نعبره في 5 ساعات، لكن خلال خروجنا هذه المرة قضينا 24 ساعة في الحافلة بسبب الاكتظاظ في الطريق، كنا نتناوب على الجلوس على الكراسي”.
بعد الوصول إلى لفيف، أخذت أميمة وزميل لها سيارة أجرة نحو الحدود السلوفاكية. حاول السائق اختصار الطريق فتاه، وعلقت السيارة وسط الثلوج، تعاونوا على إخراجها وعادوا أدراجهم نحو الطريق العادي ووصلوا إلى الحدود بعد 9 ساعات.
ازدحام وبرد وجوع وبكاء
عند الحدود السلوفاكية بدأت معاناة أخرى مع الازدحام والبرد الشديد والجوع. تقول “بعد مغامرة الخروج من كييف تحت القصف، بدأت رحلة العذاب في الحدود، مشينا 3 ساعات على الأقدام للوصول إلى المركز الحدودي، تخلصنا من الطعام الذي كان بحوزتنا لأنه كان يثقل كاهلنا بسبب البرد والتعب”.
بعد انتظار طال ساعات عبرت أميمة وزملاؤها نحو سلوفاكيا، ليجدوا أنفسهم يوم الأحد وسط العراء والثلوج والجوع حيث لا سيارات أجرة ولا باصات تقلّهم إلى أقرب مدينة.
تتابع “ساعدني وزميلي رجل سلوفاكي، عندما علم بأننا خرجنا من أوكرانيا عرض علينا نقلنا إلى العاصمة مع عائلته”. وتضيف “في لحظات كثيرة كنت أستسلم للبكاء لأتخلص من الضغط والتوتر، أردت أن تنتهي هذه المعاناة لكنها لا تنتهي، أردت بعض الدفء فلا أجده، بعض الأكل فلا أعثر عليه، اعتمدت على نفسي وتعاونت مع أصدقائي لنخرج من القصف في كييف”.
أخذت الشابة القطار من العاصمة السلوفاكية (براتسلافا) نحو فيينا بالنمسا، ومنها أخذت الطائرة نحو المغرب عبر تركيا، لتصل إلى عائلتها في مدينة العيون (جنوبي المغرب) بعد رحلة طويلة ومضنية.
تقول “لم أعش هذه الظروف في حياتي، قضيت 3 أيام من الخوف والمعاناة قبل أن أصل إلى فندق في العاصمة السلوفاكية، كانت عائلتي خائفة علي، لم أصدق ما حدث ولم أكن أتخيل أنه سيحدث”.
منذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا الأسبوع الماضي، تمكن 5700 مغربي من مغادرتها في مجموعات عبر مختلف المراكز الحدودية إلى حدود صباح الجمعة، حسب ما أكد مسؤول دبلوماسي لوسائل إعلام مغربية.
خروج قبل الحرب
أما الشاب محمد غريب (21 سنة) المنحدر من الدار البيضاء، الذي كان يدرس الصيدلة أيضا في دينيبرو، فقد عاد إلى المغرب قبل الهجوم الروسي على الأراضي الأوكرانية.
يقول للجزيرة نت إنه بالتشاور مع والديه قرر العودة إلى المغرب بعد التوصية التي عممتها السفارة المغربية في 12 فبراير/شباط ودعت فيها المغاربة المقيمين في أوكرانيا إلى مغادرتها.
محمد وعدد من زملائه اجتمعوا مع إدارة الجامعة وطلبوا منها الترخيص لهم بالمغادرة نحو بلدانهم إلى حين استقرار الأوضاع وهو ما وافقت عليه.
ونجح محمد في العودة إلى المغرب قبل 3 أيام من نشوب الحرب، لكنه ظل منذ ذلك الحين يتابع أخبار أصدقائه وزملائه الذين بقوا في المدينة.
كان نحو 3 آلاف طالب مغربي تمكنوا من العودة إلى بلدهم قبل الهجوم الروسي بأيام على متن 5 رحلات جوية مباشرة بعد توصية للسفارة المغربية.
عالقون داخل أوكرانيا
وإذا كان محمد وأميمة ومهدي ومئات من الطلبة عادوا إلى المغرب ونجوا بأنفسهم من الحرب ومن التصعيد الذي بات يهدد العديد من المدن الأكرانية، فإن طلبة آخرين ومواطنين ما زالوا عالقين، بعضهم ينتظر دوره للعودة عبر الرحلات التي خصصتها السلطات المغربية لمواطنيها وآخرون بقوا داخل التراب الأوكراني.
ومن هؤلاء الشاب المغربي خليل الذي لم يتمكن من مغادرة مدينة خيرسون الواقعة على البحر الأسود جنوبي البلاد. يقول للجزيرة نت من داخل بيته إن الوضع في المدينة سيئ بعد سيطرة الجيش الروسي عليها، فالسكان لا يغادرون المنازل، وكل المحالّ التجارية والمؤسسات ومحطات النقل مغلقة.
يعيش خليل المنحدر من مدينة الرباط في أوكرانيا منذ 4 سنوات واستقر قبل سنة في خيرسون مع زوجته. وأغلق خليل عليه بيته في انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة التي تبدو له مجهولة، يحكي أنه عاش ليالي مرعبة ومن دون نوم بسبب القصف المستمر على المدينة.
يقول “طلبوا منا البقاء في بيوتنا وإطفاء الأضواء وهذا ما نفعله”، ويضيف “لا أعرف شيئا عن المستقبل، فالمواد الغذائية التي خزنتها في البيت بدأت تنفد والمحالّ التجارية مغلقة، كما أنني لا أستطيع الخروج للحصول على المال بسبب إغلاق البنوك”.
لم يستطع خليل مغادرة خيرسون في وقت سابق، ويوضح -للجزيرة نت- أن الأوضاع كانت مستقرة في البداية لكن مع انطلاق صفارات الإنذار وبداية القصف أغلقت المدينة بالكامل.
في نظره، الوضع مختلف في هذه المدينة مقارنة مع غيرها، فرغم تعرض كييف وخاركيف للقصف المكثف فإن سكانهما استطاعوا المغادرة بالقطارات ويخرجون في أوقات معينة لشراء حاجاتهم، في حين أغلقت محطات القطار والمترو في خيرسون، والجسر الوحيد المؤدي إلى خارج المدينة تم تفجيره.
رفض خليل الإدلاء باسمه كاملا وصورته خوفا على عائلته “أقول لعائلتي إنني بخير وإن الأوضاع مستقرة، وأخبرهم بقرب مغادرتي المدينة من أجل طمأنتهم، لا أريد زرع الرعب فيهم بخاصة والدتي”.
وقال الناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى بايتاس، في الندوة الصحفية التي تلت المجلس الحكومي، الخميس، إن عملية إجلاء المغاربة من أوكرانيا كانت “ناجحة” و”استثنائية” وهي مستمرة، مشيرا إلى أن المغاربة هم أكبر جنسية أجليت من ذلك البلد بعد الأوكرانيين.
عن الجزيرة
تعليقات الزوار ( 0 )