ليس اللباس مجرد قماش نكسو به الأجسام ونستر به العورات، ولا مجرد سرابيل تقينا الحر والبرد، بل هو من وسائل التعبير عن المكانة الاجتماعية، وعن طبيعة الوظيفة أو المهنة، وحتى عن الانتماء السياسي والعقائدي، وقد يتحول أيضا إلى سلاح للغزو الثقافي والتأثير الحضاري. وفي المقابل، يمكن أن يصبح أيضا سلاحا لمقاومة هذا الغزو، ووسيلة لإحياء قيم الحضارة والدفاع عن الهوية.
بهذه القناعات تسلح الفنان المغربي في العاصمة القطرية الدوحة بدر الدين بولعيش، وأطلق فكرة يروم من خلالها مخاطبة الوعي العربي والإسلامي، بإبداع تصاميم يسبح من خلالها ضد “طوفان الألبسة التي تروّج للقيم والثقافة الغربية في مجتمعاتنا”، بحسب ما صرّح به للجزيرة نت.
رسائل ثقافية وحضارية
يحلم بدر بأن يأتي يوم تزاحم فيه تصاميمه ملابس العلامات التجارية العالمية، وهي تتباهى برسائلها الثقافية والحضارية المستلهمة من التراث العربي والإسلامي، سواء المعاصر منه أو القديم.
فالفنان والموسيقار العربي المسلم أبو الحسن علي بن نافع الموصلي، المشهور بلقب “زرياب”، ليس أقل شأنا من المغني الجامايكي بوب مارلي الذي تهافتت أجيال عديدة على قمصان تحمل صورته واسمه بخط لاتيني عريض، بعضها تظهره بسيجارة مخدرات بين شفتيه.
وكثير من النساء اللائي ساهمن في بناء الحضارة العربية والإسلامية يفضلن بكثير المغنية والعارضة الأميركية من أصل إيطالي مادونا لويز سيكون، التي تهافت كثيرا أبناء وبنات العرب والمسلمين على ملابس شتى تحمل صورتها أو اسمها.
كما أن شخصيات شهيرة في تاريخ الأدب العربي، مثل سندباد أو جحا أو بهلول، أو حتى شخصيات حقيقية مثل ابن سينا وابن خلدون وابن زياد والمتنبي، “يمكن أن تتزين بها صدور أو ظهور الشباب العربي، ويكون ذلك تعبيرا واضحا عن الانتماء والعمق الحضاري، دون حاجة لأن نستهلك -وفي أغلب الأحيان دون وعي ولا علم- ما يصدره إلينا الآخرون من شخصياتهم وأعلامهم”.
تصحيح المسار
ولد بدر سنة 1976 في حي المصلى الشعبي بمدينة طنجة شمال المغرب، وترعرع بين شوارعها، وبين تلال ووديان مدينة القصر الصغير (شمال) ذات الطبيعة الخلابة والشواطئ الساحرة، ومنذ طفولته وهو مولع بالرسم والتصميم، وكان من هواياته التي تجمع حوله زملاء الدراسة في الإعدادية أنه كان يرسم لهم الأساتذة والإداريين بطريقة كاريكاتيرية تثير سخريتهم.
لكنه “أخطأ الطريق” -بحسب تعبيره- ولم يجد من يرعى موهبته ويوجهها، فأقبرها وتوجه لشعبة العلوم التجريبية، ثم “صحح المسار” بعد ذلك وعاد لدراسة فن التصميم في معهد التكنولوجيا التطبيقية للخياطة والنسيج بالمدينة نفسها، وتخرج منه بتفوق نهاية تسعينيات القرن الماضي، والتحق بعدها للعمل في شركة للألبسة في قطر سنة 2000.
ومنذ بداية عمله في هذا المجال، وبحكم أنه قارئ نهم للأدب والتاريخ والتراث العربي والإسلامي، بدأ بدر في التفكير بتأسيس علامة تجارية في مجال الألبسة، يكافح بها “الكم الجارف من التفاهة التي تسوق لها كثير من العلامات التجارية الدولية”، بحسب قوله للجزيرة نت.
محاولات تترى
وفي عام 2009، كانت المحاولة الأولى التي أطلقت العنان لمشروعه، لكنها لم تستمر لأسباب خاصة رفض بدر الكشف عنها، لكن الحلم ظل يكبر معه سنين أخرى، حتى كانت السنة الماضية، عندما اقترح على أحد مسؤولي “رابطة شرفاء أولاد أبي العيش” -وهي إحدى روابط العائلات التي تعود بنسبها إلى الأدارسة، وينتمي إليها، ومقرها في طنجة- أن يصمم قمصانا تحمل اسم وشعار الرابطة، ويتم بيعها لتكون موردا ماليا ينمي مداخيلها، وانبثقت بعدها أفكار ومحاولات كثيرة.
يستثمر بدر شخصيات تاريخية وأدبية ومن كل المجالات في تصاميمه، ويسعى لابتكار شخصيات كرتونية ذات هوية عربية، كما ينتقي عبارات وأبياتا شعرية وأمثالا خالدة من التراث العربي والإسلامي ليزين بها الملابس التي يبدعها.
يقول إنه في مرحلة أولى يريد أن يرسخ فكرة مشروعه عبر طبع المقولات والأمثال الخالدة والأبيات الشعرية بالخط العربي على الملابس، وأحيانا يطبع عليها رسوما وتصاميم من إبداعه، لكن طموحه مستقبلا ألا يكتفي بالريشة، بل أن يُعمل في القماش مقصه وأدوات الخياطة لابتكار تصاميم خاصة به، لكنها تنطق تراثا وإرثا حضاريا عربيا.
ويرى بولعيش أن “من دواعي الفخر أن يتزيا شباننا وشاباتنا ورجالنا ونساؤنا وأطفالنا بأزياء عليها أبيات خالدة للمتنبي أو عنترة أو عمرو بن كلثوم، أو عليها رسم يخلد معركة حطين، أو عليها مثل عربي خالد أو حكمة متوارثة عن آبائنا وأجدادنا، حتى لو كانت بالعامية وبإحدى لهجاتنا”.
وذلك في نظره “خير وأبقى وأنفع وأنقى من أن يلبس أبناؤنا ملابس عليها عبارات بلغات أخرى، وفي غالب الأحيان لا يعرفون معناها. والأدهى والأمر أن بعض هذه العبارات تسب لابسها وهو لا يعي، وربما تكون عبارات خادشة للحياء وقادحة في أخلاق من يحملها على جسده، وربما تحمل أفكارا إلحادية، يدخل بها بعضهم إلى المسجد للصلاة وهو لا يعلم أي كفر مسطر على قميصه”.
أرضية خصبة للنجاح
ويعتبر بولعيش أن مجرد رؤية الحرف العربي على اللباس ستقود للتطبيع معه وتحبيبه للابسه والناظر إليه، وستكون دعوة للتأمل في جماليته وتفرده، وفي ذلك خدمة للغة والثقافة العربيتين.
بدر واثق من أن فكرة ابتكار تصاميم للألبسة مستوحاة من تراثنا ستجد الأرضية الخصبة للنجاح إذا وجدت من يثابر في الدفاع عنها ورعايتها والتضحية من أجلها، “فما يزال العالم يذكر أن اللباس العربي الأندلسي كان لمدة طويلة هو اللباس الرسمي للعلماء في أوروبا حتى بعد سقوط الأندلس”.
ويقول بكل ثقة ووثوق وهو يتحدث للجزيرة نت “لا أتوقع النجاح بسهولة، لكني لن أستسلم، فإما النجاح أو النجاح، سلاحي في ذلك الاعتماد على الله وعلى الجد في العمل وعلى القدرة على ابتكار أفكار خارج الصندوق، كما أعول على الوعي الكامن في الأمة العربية”.
في البداية، سعى بدر إلى إيجاد مكان لفكرته في السوقين القطرية والمغربية، واتفق مع بعض المحلات التجارية على أن تعرض بضاعته ليكتشفها الناس، ويؤكد أن هذا المشروع بالنسبة إليه هو قبل كل شيء “مشروع توعوي وفكري وحضاري”، وهذه هي الأولوية بالنسبة إليه، لكنه أيضا لا ينكر أنه مشروع تجاري يتمنى له النجاح والتوسع.
ويخلص المصمم المغربي إلى أن من ركائز نجاح هذا المشروع هو وصوله إلى قلوب ووعي الأسر العربية، ويعول على التفات الآباء إلى طبيعة ما يقتنونه من لباس، ويوصيهم قائلا “تخيروا لأبنائكم وأسركم فإن اللباس دساس، يدس الثقافة في القماش”.
عن الجزيرة
تعليقات الزوار ( 0 )