شارك المقال
  • تم النسخ

أزمة الضبابية والغموض في المشهد السياسي

في السياسة ليست ثمة حالة أسوأ من حالة الغموض في المشهد السياسي، تلك الحالة التي تختلف صورها من دولة لأخرى، وتفضي- مع اختلافها- إلى نتائج متطابقة أو متقاربة.
في التحديد الظاهر، تعني الضبابية في الحالة السياسية فقدان القدرة على فهم الاتجاه، ليس بالنسبة إلى المراقبين، ولكن أيضا بالنسبة للساسة، الذين لا يستطيع أحد منهم أن يعرف إلى أين تؤول الأمور.
لكن في التحديد الدقيق، يصعب فهم الظاهرة من خلال إحدى صورها، كما لا تكتمل عناصرها بدون معرفة الشكل الذي تتعامل به القوى الإصلاحية معها.
في مصر على سبيل المثال، تكمن هوية هذه الحالة في أزمة الشرعية، ليس بالمعنى الذي يتبناه «الإخوان المسلمون»، والذي يحيل على انقلاب على الشرعية، فثمة حالات لانقلابات انتهت إلى تسوية ما لأزمة الشرعية، بإعادة رسم قواعد جديدة للعب السياسي، يجد فيها الفاعلون السياسيون حدا أدنى من خيارات العمل السياسي. ما نقصده في الحالة المصرية من أزمة الشرعية، هو عجز النظام السياسي عن صياغة قواعد لعب سياسية تضمن قدرا من المشاركة السياسية لمختلف الفاعلين. فقد انتهت الخيارات بنظام السيسي إلى استعداء المجتمع السياسي والمدني، بل ومخاصمة القوى الحية في المجتمع، وهو ما يعني أن الحكم صار يسير بقوة الإكراه، وتلك القوة، جربتها تونس بن علي، واستمرت لبعض الوقت بفضل الدعم الدولي، وبعض الانفتاح الاقتصادي الذي زكته السياقات الدولية والإقليمية. لكن، بالنسبة إلى مصر اليوم، يصعب إعادة بناء صيغة تونس، كما أن الاعتبار الاستراتيجي، المرتبط بالأمن الإسرائيلي، لا يمكن أن يخلق حتمية قدرية تخدم نظاما عجز عن توفير شروط الخروج من أزمة شرعيته، فأمريكا، بل والكيان الصيهوني، يفضل دائما الاعتماد على نظام يملك قوته في نفسه، من أن يكون محتاجا للدعم من خارج.
في الجزائر، تبرز هوية أخرى لحالة الضبابية، ترجع لخلافات داخل النخب العليا، وعدم القدرة على تسوية سلمية، تفضي إلى خلق نظام سياسي قادر على الاستمرار دون حصول هزات عنيفة. البعض يعتقد أن الحراك الجزائري هو الذي حفز تناقضات النخب العليا، لكن الواقع يؤكد العكس، إذ دخلت بعض أطراف التوتر في النخب العليا على خط الحراك، تغازله وتحاول أن تحركه لجانبها لتصفية الصراع مع النخب النقيضة، لكن المشكلة لا تكمن في قدرة نخب ما على التغول وإخضاع النخب الأخرى، ولا تكمن في القدرة على توظيف الحراك، وإنما تكمن في عدم القدرة على بناء قواعد مؤسسة لانصهار النخب العليا في نظام سياسي واحد، إذ المؤشرات تؤكد وجود حالة من الريبة داخل المؤسسات، لاسيما منها التي تحسم الصراعات والتوترات بالقوة، إذ ما تكاد تصفي جهة ما عناصر في الجهة المقابلة حتى يقع العكس، وتلعب وسائل الإعلام دورها في إخراج طريقة هذه التصفية بالاستعانة بالموت أو بأطروحة الفساد والحاجة للتطهير. والنتيجة أن كل القوى السياسية، لا زالت تستشعر حالة الضبابية في المشهد السياسي.

في تونس، الشيء نفسه يحصل، وإن استطاعت حكومة الفخفاخ أن تكسب رهان الثقة برلمانيا، إلا أن توترات ما قبل الثقة، تكشف عن هوية أخرى من الضبابية والغموض، تستمد عناصرها من إخفاء جوهر المشكلة في الصراع بين مكونات المجتمع داخل السلطة، والحقيقة أن المشكلة في تونس هي أعمق من ذلك، لأنها ترتبط بغياب مفهوم الدولة لدى الساسة، بالمعنى الذي يعني عدم قدرة أي تيار سياسي على القيام بما يجب لإعادة هيبة الدولة بدلا من مسايرة شعارات الحراك وتوظيفه في تحسين التموقع السياسي. لا يستطيع أحد داخل تونس من القادة السياسيين، أن يعترف بأن المسار الدستوري والسياسي والانتخابي لم يكن يسير في خط متواز لإعادة بناء منطق الدولة.
في المغرب، الوضع مختلف، لكن حالة الضبابية في المشهد السياسي تظهر أكثر حدة، وذلك بسبب وجود تقاليد في تأطير المشهد السياسي، وفق قواعد ما تخلفت إلا في بعض التفاصيل، فالسلطة كانت دائما موجهة للمشهد السياسي، وطرفا قويا في التفاوض لتعديله أو الدخول في منعطفات حاسمة فيه، ( تجربة التناوب السياسي الذي رعته الدولة، وحدث تجاوز تداعيات الربيع العربي).
في المغرب، الأمر لا يتعلق بصراع نخب عليا على الهيمنة على السلطة والثروة كما في الجزائر، ولا يتعلق بالمطلق بأزمة شرعية، فالملكية في المغرب تجد إجماعا سياسيا قاعدته في السوسيولوجيا والدين، قبل أن تكون في مزاج الرأي العام، كما تختلف عن تونس، فمنطق الدولة في المغرب حاضر بقدر كبير، سواء من خلال سلوك رئيس الدولة أو من خلال بعض سياسات الحكومات.
حالة الضبابية في المشهد السياسي تتجلى في أزمة أطروحة التوازن السياسي، ووصول مؤشرات هذه الأزمة لدرجة المس بالخطوط الحمر، أي الإجماع، وعدم وجود خيارات يعول عليها لتجديد هذه الأطروحة، فالسلطة منذ أكثر من نصف قرن، كانت تبني أطروحة التوازن من خلال أحزاب إدارية موالية، وقوى إصلاحية ديمقراطية، فضلا عن توظيف بعض المؤسسات الدستورية، ولو ظهر خروجها عن الأطر التي تطبع حيادها.
انتخابات 2016 التشريعية أظهرت بشكل واضح انهيار أطروحة ريمي لوفو التي بناها على قاعدة البادية، أي، أن الأصوات والمقاعد البرلمانية التي يمكن التحكم فيها وخلق الأغلبية هي في البادية ذلك المجال المحفوظ الذي تسيطر عليه السلطة بالأعيان والأحزاب الإدارية، لكن ما حدث بعد ذلك أسوأ، فقد احتدت أزمة منظومة الوساطة، ودخلت الأحزاب في أزمة، بلغت حد إعلان الدولة رسميا عدم الثقة بها، ودخل حزب السلطة المركزي (الأصالة والمعاصرة) في صراع تدمير النخب وتدمير لبعضها للبعض، وتعرض حزب الأحرار لأزمة كبيرة مست قيادته بشكل خاص بسبب خلافات في موضعة النخب العليا في مربع الثروة.
الضبابية في المغرب، تعني غياب الخيارات أو تقلصها بشكل كبير، وتعني في الحد الأقصى خروج المشهد السياسي عن الضبط، بسبب تواتر الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية، وتحديات مواجهة آثار الجفاف وندرة المياه وما يمكن أن ينتج كمضاعفات للوباء العالمي كورونا من أزمة اقتصادية عالمية.
المفروض أنى لحظات الضبابية تلهم القوى الإصلاحية للتحرك لإعطاء مضمون حقيقي للانتقال الديمقراطي، لكن المفارقة، أنها دخلت في انتظارية خطيرة، وبعضها لم يعد له من خيار سوى مجاراة خطاب الدولة، في الوقت الذي كان يطلب منه أن يقدم تصورا للخروج بالدولة من أزمتها.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي