إن الشعبية التي يحوز عليها رجب طيب اردوغان لدى قسم من الرأي العام العربي لمثيرة حقاً للاهتمام. فثمة العديد من الناس في منطقتنا يتحمّسون للرئيس التركي وكأنه بطلهم، مثلما كان هناك في منطقتنا، حتى بداية أفول الإمبراطورية العثمانية، من كانوا يفتخرون بتبعيتهم للسلطنة وللخلافة الإسلامية التي كانت بحوزتها. وقد بقيت هذه الحال حتى النهضة العربية ومقاومتها لسياسة التتريك التي اتبعتها الإمبراطورية العثمانية في مرحلة احتضارها. أما اليوم فتبدو الأمور وكأن الانحطاط الذي تعيشه المنطقة العربية في الوقت الراهن، مقترناً ببعثة المشروع العثماني بحلّة جديدة مع الرئيس التركي الحالي، قد أعادا التاريخ إلى الوراء: ألغى الانحطاط مفعول النهضة، بما جعل إحياء المشروع العثماني محطّ فخر لدى الذين لا مدعاة للفخر لديهم في أمتهم، فبات اردوغان بطل الذين لا بطل لهم من أبناء قومهم ولا قدرة لديهم على إفراز الأبطال.
والحال أن شعبية اردوغان عند بعض العرب لا مثيل لها لدى شعوب إسلامية أخرى، عدا ربّما لدى بعض الشعوب المنتمية إلى الثقافة التركية في القوقاز وآسيا الوسطى، لاسيما في أذربيجان التي يؤازرها الحكم التركي ضد جارتها الأرمنية. أما المعجبون العرب بالرئيس التركي، فيُلبسونه الثوب الذي يحلمون به، ويغضّون الطرف عن تقلّباته السياسية العديدة والشهيرة، سواء أكانت في الشأن السوري، أم في الموقف من روسيا أو من الحكم المصري وغيره من الأنظمة العربية، أو حتى من الحكم الصهيوني. ويتصوّرون أن «الغرب» برمّته ـ أو «الإعلام الغربي» (وكأنه إعلام موحّد منسجم، ربّما ظنّه بعض العرب مثيلاً لما يسمّى بالإعلام داخل بلدانهم) ـ يعادي اردوغان لأنه زعيمٌ مسلمٌ، جاهلين أو متناسين ما كان للرجل من شعبية كبيرة في الغرب خلال العقد الأول من حكمه، عندما أشرف على تقدّم هام في مجالات الديمقراطية والسلام الأهلي (المسألة الكردية) والتنمية الاقتصادية، قبل أن ينقلب تدريجياً في العقد الثاني إلى حاكم سلطوي (ولو ضمن حدود لم تقض بعد كلياً على الديمقراطية، خلافاً لما جرى في تونس على سبيل المثال) ويعيد إشعال الحرب مع الحركة الكردية، ويخرّب الاقتصاد بإصراره على المسك بدفّته بما ينذر اليوم بحدوث أزمة خانقة.
أفلا تنتقد المصادر الإعلامية الغربية، ذاتها التي تنتقد اردوغان اليوم، غيرَه من الزعماء السلطويين، بمن فيهم أوروبيون كرئيس وزراء المجر فكتور أوربان أو أمريكيون كدونالد ترامب؟ إن الإقرار بذلك يعني الإقرار بأن الكثير من الانتقادات التي يتم توجيهها إلى اردوغان إنما تستوحي مبادئ الديمقراطية ذاتها التي باسمها يتمّ نقد المذكورين أعلاه، أو نقد بعض الحكام العرب، بمن فيهم عبد الفتّاح السيسي الذي كان خصم اردوغان اللدود حتى وقت قريب، ناهيكم من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو الرئيس الصيني شي جين بينغ، بل حتى بنيامين نتنياهو الذي يكنّ له قسم كبير من الإعلام الغربي العداء على الرغم من الميل السائد في الغرب إلى الكيل بمكيال خاص عندما يتعلّق الأمر بدولة إسرائيل.
أولم يأخذ معظم الإعلام الغربي على منازع اردوغان في الانتخابات الأخيرة، كمال كليتشدار أوغلو، تغيير لهجة خطابه بعد الدورة الأولى في اتجاه العداء للاجئين السوريين؟ (أهم المنابر الإعلامية الغربية وتعليقات الصحف الكبرى أدانت خطاب كليتشدار أوغلو، الذي رأت فيه صدىً لأسوأ خطابات أقصى اليمين في بلدانها.) أولم ينتصر «الإعلام الغربي» لمسلمي البوسنة في الأمس ضد أخصامهم الصرب والكروات (المسيحيين) وللمسلمين الروهينجا اليوم ضد دكتاتورية ميانمار العسكرية؟ أوليس صحيحاً أن «الإعلام الغربي» يبدي تعاطفاً مع مسلمي سنجان (شينجيانغ) في الصين أكبر بكثير مما يبديه معظم الإعلام العربي، الذي يعكس سكوت الأنظمة العربية عن مصاب الأويغور (الذين يزيد عددهم عن أحد عشر مليوناً)؟
كفانا إذاً تقليداً للنزعة المعهودة لدى الأنظمة الدكتاتورية في منطقتنا في دحض الانتقادات التي تأتيها من مصادر إعلامية غربية بإحالة هذه الانتقادات إما إلى عداء غربي للشرق، أو عداء غربي للإسلام، أو حتى عداء غربي للعرب تحديداً، مثلما كان قادة الاتحاد السوفييتي ينسبون كافة الانتقادات التي كانت تستهدفهم في موضوع الديمقراطية إلى مصلحة رأسمالية، وكما ينسب حكم الملالي في إيران تضامن «الإعلام الغربي» مع انتفاضات شعبه برجاله ونسائه ضد الاستبداد إلى مؤامرة صهيونية.
ويلٌ لأمة لم تعد قادرة على صنع الأبطال فتنتصر لزعيم عند جارتها وتتصوّره منزّهاً عن الشعوذة، معصوماً عن الخطأ، بينما يكرهه ما يناهز نصف شعبه.
تعليقات الزوار ( 0 )