شارك المقال
  • تم النسخ

آثامٌ الأليغوريا بين “السقوط والانتصار” في ديوان “طعناتٌ في ظهر الهواء” لمحمد بلمو

محمد الديهاجي*

بعد ديوانه الأول، “صوت التراب”، الصادر ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب، وديوان “حماقات السلمون” بالاشتراك مع الشاعر عبد العاطي جميل، في تجربة رائدة ومتفردة، وديوان “رماد اليقين” الصادر ضمن منشورات وزارة الثقافة، في طبعتين، يأبى الشاعر محمد بلمو إلا أن يواصل مغامرة النحت بإزميل التجريب، في أرض لمّا تستبح بعد، وأن يفتح السبيل إلى سلسبيل، محاولا قدر الإمكان، استيلاد الممكن من المستحيل، نكاية بالعرفي والوقتي الزائل.

صيرورة النهر الشعري، لدى هذا الشاعر، هي استكمال واثق ووثيق لأنطولوجيا شعرية، وضعت نفسها في المهب، أي رهن آثام الكتابة، منذ انطلاقتها، أو على الأصح منذ أن وعَتْ شرط بدايتها. هي كذلك وعدٌ واثقٌ بالمغايرة والاختلاف.. وعدٌ بوجود آخر، وبتسميات أخرى له.

الآثام في ديوان “طعنات في ظهر الهواء” فضيلةٌ، لأن اليد التي تقترفها، يدٌ محمومة، وتسعى جاهدة، إلى جعل أراضي الشعر ممكنة، أو أن تهجس بكل المثالب التي قد يمنحها الخيال، ذاك الذي، وحده، يقوى على هتك شغاف المحجوب من أجل اللانهائي.

لنا أن نتصور، إذن، وقع اليد في هذا الديوان. اليد التي تجعل الكلام يتعثر ويعيد تشكيل اللغة من جديد وفق اشتراطات جديدة لا تذعن إلا لحركة الأصابع باعتبارها مفردا لا جمعا. يقول الشاعر:

كأن يدي ليست

يدي

والأصابعُ رملٌ

كأني لستُ

أنا

والسماءُ حمقاءْ. (ص61)

إن اليد الكاتبة، في هذه الإضمامة ، يدٌ ثالثة غير اليدين، إنها  مصدرُ إلهامها وحكمتها الأليغورية التي لا تنقطع.. بله مصدر الآثام العابثة بالأليغوريا الشعرية :

لا يدَ

لي

أيها الجبلُ الحكيمُ

لا أصابعْ. (ص 63)

ثمة إذن نسبٌ، في الديوان، بين الأليغوريا الشعرية واليد. فحينما تحرر يد الشاعر نفسها في الكتابة وبها، فإنما تحرر فكر صاحبها، كشرط تاريخي – فكر الشاعر- من اشتراطات الحداثة، من خلال الأليغوريا الشعرية الأكثر تحررا من اللغة المعيارية. يقول الشاعر في نص ” لا أكتُبْ” :

صدقوني

أنا لا أكتب

ترقصُ أصابعي

مع الحروف

في مياه الدهشة

كي تنمو مشاتلُ المعنى

في ربوع البياضْ. (ص 71)

إن يد الشاعر، ها هنا، حين تكتب، وقد وضعت رعشتها رهن ما قد يقودها إليه تهورها، إنما هي في الوقت نفسه، تعمل جاهدة على تفكيك ميتافيزيقا خطاب الدوكسا الأخلاقي الذي تهندم مبكرا، وفق مصالح خاصة، بعيدا عن الحرية والإبداع. هي يد تسعى جاهدة وأبدا إلى تفكيك ميتافيزيقا هذا الخطاب القائم على مقولات المعيار بالرقص والبياض فقط.

وغير خاف، ليس عن القارئ المتخصص فقط، وإنما  حتى بالنسبة للعين العجلى، أن اللغة الشعرية  في الديوان لاهبةٌ ولافحةٌ، والصمتَ غاضبٌ وهدّارٌ .  فالشاعر محمد بلمو يذهب إلى لغته عُنوةً وقصدا، ولا يترك اللغة تأتي إليه. اللغة عنده فكرة مبيتة يذهب إليها من أجل تَنْخيلها من مُلاءات وإملاءات الواقع واليومي، ليجعلها قادرة على قوله، بصيغ أخرى؛ ديدنها، في ذلك، الخلق والتفجير بما هما تغيير لمجرى النهر. تخلُّق كهذا يجعل الواقع ينقال عند الشاعر كما جاء في البدايات والأصل، لا كما يبدو لنا أو كما نتصوره على الأقل. إن اللغة عنده عاريةٌ إلا من عريها تماما كلغة الأطفال، تأسِرُك وهي “تنطق السين شينا”، كما قال القاص أحمد بوزفور، وحين يُعوزها التعبير، تُخرج لسانها بسخرية سوداء كطفلة مشاكسة. إنها بعبارة الجرجاني، تجمع ” بين أعناق المتنافرات والمتباينات في رَبْقًةٍ…. وتعقِدُ بين الأجنبيات معاقدَ نسبٍ وشبْكةٍ.”  لنتأمل هذا المقطع المتأرجح بين الكورال التراجيدي والحكمة البروميثسية، بين السقوط والانتصار، جيئة وذهابا، تواصلا وتفاصلا، وبلغة تم تنخيلها من كل المساحيق :

صدقوني

أنا لا أكتب

أحاول أن أُشعل القلقَ في القُضبانِ

والخوفَ في القيودِ

والضوء في الدهاليزِ

المُقْفرَةِ

حين تنبعِثُ من حروفي

رائحةُ البارود

نيرانُ المدافعْ

لأن تجّار الحروبِ

لا يُريدون للسَّلامِ

أنْ يحُطَّ يوما على هذه الأرضْ. (ص72)

وتعليقا على هذا الوعي التراجيدي المستحكم في تضاعيف نصوص هذا الديوان، يقول الدكتور محمد الشيكر في تقديمه لهذه الإضمامة : ” ولأن الوعي التراجيدي الأصيل ليس انتكاسا أمام صروف الزمن، وليس انهيارا في وجه النوائب القاصمة، بل هو مواجهة جسورة للقدر، وممانعة

بروميثيوسية للشر المعمم ولاستراتيجياته المدمرة، فإن شاعرنا، أسبغ على شعريته التراجيدية ميسما بطوليا، جعله يضحك في وجه الحزن المر، من غير أن يتحلل من إثيقا مواجهة ضوضاء الوقت،

وممانعة زيف العالم، والتصدي لسلطه الغاشمة”.

إن الشاعر محمد بلمو، من خلال هذا الديوان ، يفتح أفقا مغايرا في مساره الشعري، ونحن نعتبره مبررا كافيا لوجود هذه الإضمامة المائزة والماتعة في آن واحد. أفقا يجعل من ماء اللغة، طريقا سالكا نحو مضائق الكتابة، أو كما حلا وطاب لأبي نواس ذات شرود ونظر، أن ينعته ب”مضائق الشعر”.

وبذلك تكون هذه “الطعنات” المصوبة بدقة كبيرة، قد اخترقت، لا ظهر الهواء، وإنما جسم الدوكسا الأخلاق/القيمي عَدُوّ الحرية والتحرر والإبداع، ذاك الذي يصاب بالفزع والرُّهاب كلما باغته أو همّ به طارئ أو جديد.

فطوبى للشاعر محمد بلمو بأفقه الجمالي الجديد، الذي كرس وضعا كتابيا مختلفا في طوبوغرافيا منجزه الشعري؛ وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن هذا الرجل يكتب بمعرفة أو بوعي شعري نفتقده كثيرا في أيامنا هذه.

وطوبى لنا نحن القراء بهذه” الطعنات”.. إذ ما أحوجنا، في كل مرة، إلى طعنات تجعلنا نشك في كل شيء من حولنا، طعنات تجعلنا، عطفا على ذلك، نعيد صياغة أسئلتنا الإبداعية (فنيا ومعنويا)، ونعيد النظر في علاقتنا بالوجود، بكيفيةٍ مختلفة ومغايرة.. كيفيةٍ، هي من سلالة الدهشة الفلسفية.

*شاعر وناقد

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي